المنشور

ولاية الفقيه “الاشتراكي”

في أزمة الرأسمالية الحكومية الشرقية الكبيرة، حين يستنفد النظامُ قدراته على إعادة تشكيل نفسه باتجاه الحريات ويفشل في السيطرة على الملكيات العامة من أجل التطور الشعبي، تصحو عفاريتهُ القديمة، يعودُ لاستنهاض قواه اللاوعية، الأشكال الإيديولوجية الغيبية المجربة في التأثير السياسي، تنبعث اللاعقلانية والعقلانية الدينية في صراع متشابك ضار، قد تزدهر الفوضى والتخريب والارهاب وقد تتغلب قوى العقلانية السياسية.
وبين عصر الأنوار الثوري الأول حين كانت قوى الشغيلة تسيطر على الشوارع وتراقب الملكيات والبنوك وتسيطر على الدخول، وبين عصر ملوك الفساد الإداريين والجثث المحنطة البيروقراطية، مسافات كبيرة.
غالباً ما يلعبُ الدينُ دورَ المحول في هذه الأزمات، لكنه كذلك يصيرُ إلى عائقٍ حين يكونُ هو المظلة الايديولوجية لنظام الرأسمالية الحكومية الشمولية، فيغدو العكس هو المسار، أي رفض سيادة الدين.
أكثر الايديولوجيات حضوراً في الوعي الشعبي العفوي هو الدين ومع الرأسمالية الحكومية الشرقية تصبحُ الماركسية والقومية والوطنية ديناً، فهي تتقولبُ لما هو سائد، ويصبحُ ما هو مستوردٌ من الغرب محافظاً شرقياً، إذا ما استمرت الرأسمالية الحكومية في شموليتها، وتغييب الرقابة والحريات.
وأحياناً تندمجُ هذه المكونات الفكرية المختلفة في خليط واحد يعبر عن الطبيعة الاجتماعية لهذه الرأسمالية.
لقد كانت الماركسية الروسية مستوردة من الغرب ولم تـُنتجْ من التطور التحديثي الداخلي، فتمت قولبتها لتلائم نمو الرأسمالية الحكومية المتصاعدة بدءًا من الثورة في عام 1917 التي كانت ثورة شعبية تم خطفها بعد ذلك من الشغيلة وتسليمها للبرجوازية الحكومية البيروقراطية، ولهذا فإن الماركسية تحولت إلى دين، وصار السكرتير العام للحزب شبيهاً بالمرشد الأعلى للجمهورية الدينية الإيرانية.
لقد تمت قصقصة أجنحة الماركسية التحليلية والنقدية، وصارت دوغما ونسخة مُصدرة عالمية، وبطبيعة كونها ذات مصدر أوروبي كانت أكثر تفوقاً من المذاهب الشرقية المحافظة التي عبرت عن جمود الأرياف وسيطرة الإقطاع، فهي – أي الدولة السوفيتية – تقوم بنسف هذه العوالم الجامدة ساعية لثورة صناعية كبرى، ملائمة لنهوض قومي في بلد فقير شاسع، فتمصُ خلايا القوى العاملة لتشكيل تلك الرأسمالية، ولكن في الدول الصغيرة ذات الأسواق المحدودة تعجز عن ذلك مهما كان الفقيه الاشتراكي متحمساً كما حدث في كوريا الشمالية، التي غدت رأسمالية حكومية متخلفة محنطة وذات مخالب عسكرية مغامرة.
ولكون الماركسية غدت دينا غيبيا معتمدة على حفظ الجمل وتغييب التحليل النقدي المستمر للواقع، فإن الفقيه الاشتراكي قادر على الفهم (العميق) للكتب المقدسة التي تـُحنط، ومهما كان التباين الشاسع بين فكر القائد الأول والقائد الحالي المحدود وقتذاك، فالقادة يزدادون تحجراً وضحالة كلما تنامى استغلال هذه الرأسمالية.
فيما بعد يتم تحنيط القادة أنفسهم ويصيرون مزارات مقدسة، يتبرك بهم الجمهور في هذا الموت – الحضور – المقدس، حيث يتم إختراق وضع الدنيا الزائلة بغيب الشيوعية المبارك في المستقبل، أو يصيرون في حالة دينية وقومية مصدراً للسعادة الأخروية في مقابرهم الخالدة مع تحول الدول إلى جهنم.
إن تقاليد الشرق الدينية تسحب النظريات الغربية وتخضعُها للبناء الاجتماعي الشمولي.
في إيران تم خطف الثورة الشعبية من العمال والفلاحين من قبل الرأسمالية الحكومية المتجهة للعسكرة. ولم تحتج المذهبية إلى أن تـُحنط سياسيا فهي مُحنطة جاهزة بفعلِ الطبقات الاستغلالية التي هيمنتْ عليها وجمدتها عن متابعة نضال الجمهور، أي أنها رؤية شرقية مستمرة لمخاض قومي تسيطر عليه القوى العليا وتستغل الجمهور لبناء هذه الرأسمالية الحكومية، عبر ما توارث من مذهبية مقدسة تخدع الجمهور في نضاله الطبقي المستقل.
المرشد الأعلى، والسكرتير العام، ورئيس الجمهورية الأوحد، والملك المطلق، والشاه، وقائد الثورة، وغيرها من الألقاب الشرقية هي تعبيرٌ عن جمود هذه الرأسماليات الحكومية وعمليات نخرها البيروقراطي الاستغلالي، وتعبير عن ضعف الرأسماليات الخاصة الليبرالية، وجمود وعي العمال.
هنا تجري العمليات الفكرية والسياسية نفسها، أي عدم القيام بالتحليلات الاقتصادية والاجتماعية للحياة الحقيقية، ولعلاقات القوى وكيفية توجه فوائض الاقتصاد ومن تخدم وما هي علاقاتها بالسياسة وأدوات الحكم.
ولاية الفقيه الرأسمالي الحكومي تجري في بخور الشرق التغييبي، ويتم سحب المراحل من سيرورة التاريخ، وتـُعلق في فضاءٍ مقدس منزه عن النقد، وتقدم البركة والمكانة المعيشية الممتازة لمن يقترب من محراب الدولة المقدس، ويُعاقب الناقد لها والرافض ككافر وإنسان فقد الاستقامة وحلت عليه اللعنات بدءاً من الحبس حتى الاعدام.
تعتمد عملية الإصلاح والعقلانية السياسية النقدية على مدى حضور التقاليد الديمقراطية لدى الجمهور والتنظيمات، ففي الهند حيث التاريخ الطويل للتعددية، يتم إصلاح ذلك والعودة للمسار الحقيقي للواقع، فلا تـُصور رأسمالية الدولة كالمعجزة الإلهية، بل تظهرُ كخيارٍ اقتصادي تم لظروف معينة تم تجاوزها، في الصين يظهر تحايلٌ ايديولوجي ويعبرُ ذلك عن صعوبة التوجه للمسار الرأسمالي الديمقراطي بعد هيمنة هائلة للدولة وموظفيها ومستغليها.
في روسيا يتم ذلك بانفجار ويحدث انقلابٌ كامل، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، لكون قيام الرأسمالية الحكومية الروسية تم بقدسية كبيرة، فيجرى تحطيمها بكفر كامل، وتغدو الأرثوذكسية المسيحية هي المظلة الايديولوجية الإيمانية لما كان دولة إلحادية ذات رسالة عالمية في هذا الالحاد.
إن عودة الأرثوذكسية المسيحية هي عودة للمسار القومي الروسي الأوروبي، هي عودة روسيا لمسارها الرأسمالي الخاص الغربي، وانفكاكها عن عالم الشرق الإسلامي، رغم أن ذلك لا يحدث بشكل شامل لأن لغة المصالح والمنافع الاقتصادية تبقى أهم من بركات الكنيسة.
إيران لم تحصل على توليفة فكرية لفهم الاثناعشرية والديمقراطية معاً، وهي كروسيا حادة في خياراتها، فإما المذهب المحافظ وإما الانجراف للغرب والليبرالية بشكل كامل.
يعتمد ذلك من الناحية الاقتصادية على مدى حضور الطبقة الوسطى الصناعية – التحديثية، وقوى العمال ذات الوعي السياسي المميز والمستقرة معيشيا، فإذا كان حجم الفساد ضخماً يصعب ذلك، وإذا تنامت عمليات الحرية الاقتصادية والسياسية والتحكم في الاقتصاد الحكومي، فإن قوى عقلانية سياسية تظهر من مختلف جوانب الحياة وتحد من الخيارات السياسية المغامرة أو من عمليات الانهيار والفوضى ويتم سحب كلمات المرشد الفقيه المسيطر والسكرتير العام الأوحد.

صحيفة اخبار الخليج
17 يونيو 2009