المنشور

إيران.. وحلم التغيير المجهض

تعد تجربة الديمقراطية الديكورية المحدودة التي طبقها النظام الشمولي الإيراني الذي يهيمن عليه الملالي وفق مقاسه من أفضل تجارب الانظمة الشمولية في العالم الثالث في التخفيف نسبيا وبأقل قدر ممكن من دكتاتورية حكم الفرد المطلق واتاحة شيء من تعددية الألوان السياسية والثقافية داخل اطار الديكور الديمقراطي المفصّل مقدما على مقاس مصالح النظام والحدود المرسومة لسعة صدره وتنازلاته للرأي الآخر داخل النظام ذاته بما لا يهدد او يزعزع الركائز التي يقوم عليها.
وبالتالي فالانظمة الشمولية التي تطبق هذا النوع من الديمقراطية الديكورية وتتيح تعددية محسوبة تحت السيطرة داخل حلبة اللعبة المعدة قواعدها باتقان هي مع ذلك أفضل “نسبيا” من الأنظمة الشمولية الفردية التي تقوم على حكم الفرد الواحد المطلق الصريح الرافض لأي شكل من اشكال حتى التعددي الديكورية المحدودة وعلى الأخص حكم الجنرالات او حكم القائد الضرورة.
حكم الفرد المطلق ذو القبضة الحديدية لا يتيح أي فرصة للتغيير السلمي الهادئ لشدة نزعته الاستبدادية للسيطرة على الدولة والمجتمع وتأميمهما فكريا وثقافيا وسياسيا وضميريا وصبهما في لون واحد وقالب واحد، وهنا فان الفرصة الوحيدة للتغيير السياسي تنطبق عليها مقولة “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”، لكن القوة إذا ما جاءت بطغمة عسكرية من الجيش بزعامة جنرال متعطش للسلطة فانها تعيد انتاج الشمولية وان بشعارات جديدة براقة. أما القوة من خلال اداة الثورة الشعبية فهي بحاجة إلى درجة عالية من تنظيم ووحدة القوى السياسية التي تقودها، وحيازتها جماهيرية طاغية، وإلا فستكون فعاليات وأنشطة احتجاجاتها وتمرداتها الشعبية معرضة للفشل الذريع لغياب القيادة الناجحة التي تقودها وتعبر بأذكى وأبرع ما يمكن من وسائل عنها في الداخل كما الخارج، ولعل ما يميز المشهد السياسي الراهن لأغلب مجتمعات البلدان الواقعة تحت انظمة شمولية في العالم الثالث هو هذه الحالة الزئبقية تحديدا أي انها مجتمعات في حالة غليان وتململ واحباط من اوضاعها البائسة لكنها لا تجد لا القنوات السلمية التي تعبر فيها عن غضبها ولا القيادات السياسية التي تقود التغيير العنيف في شكل ثورة شعبية هادرة.
ولا شك في أن التحلي بالصبر والبحث عن أفضل الطرق النضالية السلمية التي تجنب الشعب اضرارا فادحة وتضحيات هائلة طويلة الأمد هو من سمات الشعوب المتحضرة وقواها السياسية المتعقلة التي تقيم وزنا كبيرا لمصالح ومصائر شعوبها بأقل الاثمان إيلاما أي من دون دفع الحركات الشعبية للتهور وتعريضا للانتكاسات التي ترجعها إلى الوراء سنوات طويلة.
وحينما تكون ديمقراطية التعددية الديكورية المحدودة بقنواتها الضيقة الاتساع للتعبير والاحتجاج هي الوسيلة السلمية الوحيدة الممكنة لآفاق التغيير السياسي وذلك في ظل غياب ديمقراطية تتمتع بالحدود الدنيا من وسائل حرية التعبير والتعددية المفتوحة والحريات العامة ومؤسسات المجتمع المدني المستقلة، وفي ظل غياب اختمار النضج الكافي للثورة الشعبية، وغياب القوى السياسية القادرة على قيادتها.. نقول حينما يكون الأمر كذلك، فلا مفر أمام الشعب المحظي بنظام الديمقراطية الديكورية المحدودة سوى ان يطرق آفاق التغيير المرحلي الصبور من خلال ابتكار كل الوسائل والطرائق الممكنة لاختراق قنوات التغيير المتاحة في الديمقراطية الديكورية المحدودة ذاتها والمشروطة ليبني عليها ما يمكن بناؤه وليحسن من خلالها ما يمكنه تحسينه من أوضاع الجماهير الشعبية، وليكسب بالتالي ما يمكن كسبه من حقوقه السياسية والثقافية والدينية المصادرة او المقموعة حتى تأزف لحظة فرض التغيير الجذري الشامل على النظام، إما بالتسليم لارادة الجماهير فيتغير من الداخل وإما التسليم بتهاويه ورحيله واعلان عجزه عن الصمود والاستمرار.
ولعل هذه الحالة تنطبق على إيران منذ نحو عقدين في ظل النظام الراهن، فلا توجد قوى سياسية قوية تتمتع بجماهيرية لقيادة التغيير في الشارع من خارج النظام سواء أكان بالوسائل السلمية أم بالوسائل العنيفة وبالتالي لم تبق سوى محاولة اختراق اطر الديمقراطية الديكورية الشكلية المحدودة التي صممها النظام ذاته، ووصلت ذروة هذا الاختراق بإيصال رجل الدين المنفتح المستنير السيد محمد خاتمي إلى سدة الرئاسة الذي انتخب لولايتين متعاقبتين، ولكن لما شعر النظام بغريزته الفطرية بالخوف من تعاظم مخاطر هذا الاختراق وتهديده لمصالحه وهويته الدينية فانه وفي اطار قدراته على التحكم في حدود اللعبة السياسية أحبط وصول رئيس اصلاحي آخر جديد مشابه او مماثل للرئيس السابق خاتمي، فوجه اللعبة بما يضمن فوز المحافظ محمود احمدي نجاد المقرب من رجل النظام الأول مرشد الثورة السيد علي خامنئي. ولما كان النظام بات يواجه تحديات خطيرة آخذة في التعاظم داخليا وخارجيا بعد ثلاثة عقود من الانغلاق والحكم الشمولي الثيوقراطي المطلق واستمرار الازمات الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية المتعددة فقد توجس بغريزته ذاتها من خطورة اتاحة الفرصة للشعب وقواه السياسية لإيصال رئيس اصلاحي جديد قد يفقد النظام بعد وصوله السيطرة على زمام الأمور في ظل تلك الاوضاع المأزومة.
وكان أكبر خطأ ارتكبه الاصلاحيون عدم استعدادهم للتحضير المبكر بوقت كاف لخوض معركة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ناهيك عن عدم اتفاقهم مبكرا على شخصية مرشح للرئاسة تتوافر فيه كل مقومات الجاذبية الجماهيرية الكافية (الكاريزما)، بما في ذلك تمتعه بالذكاء السياسي والخلفية الفكرية والممارسة السياسية الكافية، وازدادوا من هذا الخطأ حماقة بأن دخل مير حسين الموسوي، شبه المتقاعد سياسيا، على الخط ليرشح نفسه، وليجبر بذلك المرشح الاصلاحي المفكر والفيلسوف المجرب وصاحب الخبرة محمد خاتمي على الانسحاب، في حين ان الموسوي يفتقر كليا إلى أي من عناصر ومقومات الشخصية الكاريزمية والجماهيرية.
النظام بطبيعة الحال، وعلى وجه الخصوص “المرشد”، عرف كيف يستفيد من هذا الوضع الذي تعانيه القوى الاصلاحية فأتاح وسخر كل امكانياته لتفويز نجاد، وحصد هذا الاخير بالفعل أعلى نسبة من الاصوات، ولا يغير من هذه الحقيقة ما شهدته العملية الانتخابية من خروق وتجاوزات، وبطبيعة الحال فان نجاد اعتمد على رصيده من “الكاريزما” التي ليست سوى اجترار الخطاب البسيط الشعبي المتقادم، والبراعة في “التباسط” مع بسطاء الناس بلغة جذابة خاوية المضمون وتوسل مختلف وسائل دغدغة مشاعرها، حتى لو افتقر إلى شعارات أو برامج تغيير حقيقية تنتشل الجماهير ذاتها من واقعها المزري البائس.. وهكذا أجهض حلم التغيير، مرة اخرى حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

صحيفة اخبار الخليج
16 يونيو 2009