المنشور

ايران على مفترق طرق

الجميع يعرف أن الديمقراطية الإيرانية مغلقة، محدودة بأفق الأيديولوجية الدينية-المذهبية وسيطرة رجال الدين على كل جوانب ومنافذ حياة المجتمع الإيراني. والطريق إلى الرئاسة ليس مفتوحا إلا لعدد محدود من المواطنين المؤهلين. فالرئيس يجب أن يكون إيراني المولد، متدين، مؤمن بالمذهب الرسمي للدولة، أي أن يكون شيعيا.
مصفاة مجلس تشخيص مصلحة النظام لا ينفذ منها إلا مرشحون بأقل من عدد أصابع اليد. لقد تقدم للترشيح 475 شخصاً، بينهم 42 امرأة. اختار المجلس أربعة رجال فقط. أما ما هي حدود قدرة الرئيس المنتخب على إحداث تغيير فعلي في سياسات النظام، فقد وصف محمد خاتمي الرئاسة بعد أن جربها مرتين، بأنها «مجرد أداة تنفيذية للأوامر الصادرة من الأعلى». والأعلى هو المرشد الأعلى للثورة الإسلامية.
الحقيقة تعكس جزءاً من واقع الحال. فاهتمام المجتمع الإيراني والعالم بالانتخابات الأخيرة كشف عن انقسام حاد بين قوى المجتمع المختلفة حول أي رئيس يريدون. لقد أدرك الإيرانيون بحكم التجربة أنه مهما كانت سلطات المرشد واسعة فإنها تبقى مقيدة بشبكة العلاقات وتوازنات القوى بين مراكز النظام المختلفة. الرئيس المنتخب هو الذي يرأس المجلس الأعلى للأمن القومي ما يعني أنه يستطيع إحداث تأثير ملموس على السياسة العامة للبلاد، رغم وجود شخصين يمثلان المرشد الأعلى في هذا المجلس. ورغم أن الحرس الثوري يخضع رسميا لإمرة المرشد إلا أن لقادته مصالحهم الخاصة، خصوصا وأن هذه القوة تضاهي الجيش. وهي التي وضعت كل ثقلها إلى جانب الرئيس نجاد في الانتخابات الأخيرة رغم تواري المرشد عن إبداء دعمه الصريح له في اليومين الأخيرين. كما أن لتجار البازار تداخلهم العضوي مع السلطة السياسية والدينية ونفوذهم في المجتمع، ليس التاريخي فقط، حيث كان للبازار دور مهم في إسقاط نظام الشاه، بل وفي إجبار السلطات الحالية على التراجع عن بعض قراراتها كما حدث بشأن الضرائب، ناهيك عن دور الرموز التي تمثل مراكز القوى المختلفة كالرئيس رفسنجاني. لكن العامل الأهم هو أن بنية المجتمع نفسه أصبحت تشكل قوة ضاغطة كبيرة نحو التغيير، إذ أن أكثر من ثلثي السكان هم دون الثلاثين عاماً، وأن المرأة تشكل نصف القوة الانتخابية النشطة فعلا، وقرابة 65% من عدد الدارسين في الجامعات والمعاهد الإيرانية. وإذا كنا قد شهدنا على شاشات التلفزيون أثناء الحملات الانتخابية فتيات استطعن الكشف عن شعورهن بابتهاج، فإن ذلك لم يُزل الشعور بالضيم الذي لحق بهن في السنوات الأخيرة من تزايد المضايقات حول طريقة لباسهن ومن الغارات التي تشنها الشرطة على أماكن التجمعات النسائية.
المجتمع عموما شعر بتراجع شديد في أوضاعه المعيشية. فمقارنة بالأداء الجيد الذي أبداه موسوي بإدارته لاقتصاد الحرب أثناء الحرب العراقية الإيرانية فإن أداء نجاد الاقتصادي في فترة السلم قاد إلى تدهور الاقتصاد وبلوغ التضخم 25%. وشعر المجتمع الإيراني بأنه وقع في طوق من العزلة الدولية بسبب سياسات الرئيس نجاد حول البرنامج النووي تحديداً. فإيران بدأت هذا البرنامج منذ أيام الشاه. وبخلاف مجاهدي خلق فإن كل ممثلي القوى الاجتماعية الأخرى بغض النظر عن موقفها من النظام، بمن فيهم أنصار نظام الشاه لا تزال تؤمن بحق إيران في امتلاك الطاقة النووية. إلا أن الكثيرين غير مقتنعين بطريقة إدارة نجاد للملف النووي التي قادت إلى تشديد الخناق على إيران.
هذه العوامل مجتمعة حركت تلك الكتلة الهائلة من الناخبين الذين عزفوا عن المشاركة في الانتخابات بعد فترة رئاسة خاتمي الثانية. عادت هذه الكتلة ‘الصامتة’ بكل ثقلها الذي بلغ ما بين 26 و28 مليون ناخب لتعيد تصحيح الوضع لصالح عودة الإصلاحيين. وكانت فرضية مختلف المراقبين أن هذه الكتلة شاركت بنشاط من أجل تغيير الوضع لا الإبقاء عليه. وكانت متابعة المراقبين للمزاج العام في المراكز الانتخابية داخل وخارج إيران تقول ذات الشيء.
وفجأة يأتي تسريب إعلان النتائج على جرعات لصالح الرئيس السابق أحمدي نجاد. أكتب إليكم الآن وأنا لا أزال أتابع عملية إعلان النتائج والوجوم الذي أصاب حتى أنصار المحافظين الذين صوتوا لصالح القائد السابق لحراس الثورة السيدمحسن رضائي. فمثله مثل الإصلاحي مهدي كروبي اعتبر نتيجة هذه الانتخابات باطلة بسبب التزوير الذي شهده الفرز مطالباً بإعادتها. ويعرف الكثيرون أن كروبي، ابن لارستان يتمتع بتأييد واسع في معظم محافظات إيران الغربية. طهران العاصمة ومدينة الطبقة الوسطى الإيرانية التي يتركز فيها قرابة خمس الناخبين ومعها المناطق الشمالية التي كانت كل المؤشرات فيها تشيع الثقة بانتصار ساحق للإصلاحي موسوي ذهلت جميعا بإعلان النتائج. كان يبدو بأن موسوي وزوجته الأستاذة الجامعية زهرة، المثقفان وفنانا الرسم يرسمان للسياسة الإيرانية لوحة بألوان مختلفة فعلا. موسوي رفض الاعتراف بالنتائج المعلنة مهددا بالإقدام على «مخاطرة» لمواجهة ما أسماه «بحقبة جديدة من الطغيان».
إيران شهدت هذه المرة انتخابات كانت أجواؤها الظاهرة أكثر ديمقراطية من سابقاتها من حيث المناظرات ومساحات وأشكال التعبير التي تمتع بها الناخبون. لكن المنافسين الثلاثة شكوا من انتهاكات فظة من قبل الحرس الثوري وقوى الأمن وشركة الاتصالات التي أعاقت التواصل بين المرشحين وفرقهم الانتخابية والرقابية وجماهير الناخبين. وقد بلغت الانتهاكات حد استخدام القوة.
على مختلف مظاهرها الإيجابية والسلبية كشفت هذه الانتخابات عن انقسام عميق بين مراكز القوى في الثورة الإيرانية، وبدأ يضع إيران على مفترق طرق سترينا الأيام المقبلة مدى تصميم الشعب الإيراني على الاختيار عند هذا المفترق. والمقالة في طريقها إلى القارئ أقطاب الإصلاحيين (رفسنجاني، خاتمي، موسوي وغيرهم) مجتمعون في طهران لإعلان موقفهم النهائي من الانتخابات. وأيا سيكون موقفهم فإن اجتماعهم ورد فعل الشارع الإيراني يقول إن الوضع يختلف عن كل الانتخابات السابقة التي كان جميع المنافسين الآخرين يسلمون بنتيجة الانتخابات فور إعلان ‘الفائز’.
 
صحيفة الوقت
15 يونيو 2009