المنشور

تقطير الحكمة

لاحظ الكاتب جورج برنارد شو عند صديقه النحات جاكوب ابشتاين كتلة حجرية كبيرة، فخاطبه سائلا: ما الذي ستفعله بهذه الكتلة؟ أجاب النحات: «لا أعرف بعد.. أفكر في الأمر». رد شو: «هل تخطط لإلهامك؟ ألا تعرف أن الفنان يجب أن يكون حراً في تغيير رأيه عندما يريد ذلك؟»، لكن النحات شرح له الأمر: بالنسبة لك، في حال غيرت رأيك، لا عليك سوى تمزيق ورقة تزن خمسة غرامات، أما عندما تتعامل مع كتلة تزن أربعة أطنان فعليك إتباع طريقة أخرى. باولو كويلهو ليس نحاتاً مثل ابشتاين، إنه كاتب مثل برنارد شو، والمرجح انه مزق الكثير من الأوراق التي لاتزن الكثير بالقياس لوزن كتلة حجر النحات، من اجل أن يخلص أخيرا إلى تلك الصفحات التي تشكل محتوى كتابه «مكتوب»، وهي صفحات قليلة لكن لها وزن الذهب. في الكتاب وردت حكاية عن الفيلسوف شوبنهار الذي كان يتنزه مرة في احد شوارع درسدن باحثاً عن إجابات على الأسئلة التي تؤرقه. قرر فجأة لدى مروره أمام حديقة، المكوث فيها والنظر إلى الأزهار. احد سكان الجوار لاحظ أن سلوك هذا الرجل غريب، فاستدعى الشرطة. بعد بضع دقائق اقترب شرطي من شوبنهار وسأله بنبرة جافة: من أنت؟ رمق شوبنهار الشرطي وقال: «إذا استطعت الإجابة عن هذا السؤال، سأكون ممتناً لك إلى الأبد». بشيء من التأمل يمكن أن نقول إن الكتاب يسعى لإعانتنا على فهم من نكون، وهو يقطر الحكمة الإنسانية تقطيراً كتقطير الرائحة الزكية من الزهور على نحو ما يفعل الخيميائيون في المختبرات. التقطير يتطلب درجة من التركيز العالي، بحيث إن قطرة واحدة تختزن في ثناياها عطر الكثير من الزهور. هنا أيضاً يمكن لعبارة واحدة أن تختزن تراكماً هائلاً من عبر الحياة. اعتدنا أن نقرأ لكويلهو روايات. لكنه هنا لا يقدم لنا رواية، إنما كتاباً فريداً من نوعه. في بعض الأوجه يذكرنا الكتاب برسول حمزاتوف في سفره الجميل والعبقري «بلدي». فهو يتضمن سلسلة من الانتقاءات والاختيارات التي سهر عليها الكاتب بعناية، واستقاها من الكتب ومصادر المعرفة الأخرى. انه يصفه بكتاب لـ «تبادل الخبرات»، لأنه يتضمن حكايات رواها له أصدقاء أو أناس كثر تركوا له رسائل لا تنسى، رغم انه لم يلتق بهم أكثر من مرة، وفيه أخيرا قصص تنتمي إلى التراث الروحي للإنسانية. ولأنه يؤمن بأن الحياة مخاطرة، فانه وافق على اقتراح تقدم به إليه مدير إحدى المجلات المصورة، بأن يكتب زاوية يومية تتضمن ما يشبه الرحيق المصفى من الخبرات الإنسانية، ستشكل في ما بعد مادة هذا الكتاب الذي أعاد نشرها فيه، وان بدت الأفكار التي تضمنها على شكل مواعظ، فإنها في الجوهر تقدم خلاصات عميقة عن الحياة والنفس البشرية والإبداع والتجارب المديدة للإنسان. حين وافق على الاقتراح لم يكن يعرف مسبقا ماذا سيكتب، لكن التحدي كان محفزا له. من أجل أن يكتب الزاوية أعاد قراءة كتب، وبحث في الحياة حوله عن خبرات وتجارب ألهمته بأفكار جديرة بأن تقال.
 
صحيفة الايام
15 يونيو 2009