المنشور

الكويت .. انتصار المرأة وانحسار التشدد

جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية الكويتية الأخيرة لتقدم الدليل مجددا على مدى رسوخ التجربة البرلمانية الكويتية الممتدة منذ مطلع ستينيات القرن الماضي وقدرتها على تجديد نفسها، ولتبعث الروح في زخم المسيرة البرلمانية التي اختطتها الكويت خيارا وطنيا جامعا، توافرت له رغبة الكويتيين الصادقة في بناء نموذج متفرد على مستوى الوطن العربي، وقد مثل الدستور الكويتي التوافقي القاسم المشترك في تلك المسيرة الغنية بالعديد من التجارب والعبر والنجاحات والإخفاقات أيضا، شأنها في ذلك شأن أي تجربة سياسية وطنية في عالمنا الثالث على وجه التحديد. فالتجربة الكويتية ومنذ بداياتها الأولى كانت تستند على الدوام إلى قناعات حقيقية أسس لها القادة الكويتيون الأوائل وفي مقدمتهم أبو الدستور الكويتي الراحل الشيخ عبد الله السالم. فبعد سنوات من حالات التأزيم والتوجس التي سادت الشارع الكويتي والعربي المتابع لهذه التجربة، جاءت خطوة أمير الكويت بحل الحكومة والبرلمان وإجراء الانتخابات الأخيرة دون اللجوء للحل غير الدستوري بما يعنيه من تبعات وخيمة على المسيرة ذاتها، ويصح القول إن نتائج تلك الانتخابات قد أعطت دفعة حقيقية باتت مطلوبة بشدة لمسيرة الكويت البرلمانية الرائدة، والتي لا يختلف اثنان على ما أصابها من وهن وترهل وتشويه خلال السنوات الأخيرة، نتيجة خواء الأداء السياسي العام، علاوة على الصعود السريع لقوى الإسلام السياسي ممثلا في بعض قوى التشدد المستفيدة من ارتدادات إقليمية ودولية، والتي مازلنا نعيش قسوة بعض ممارساتها على الأرض وما أحدثته من عوامل تشدد وفرز مذهبي بغيض، وهدم منهجي لقيم الدولة المدنية التي ترعرعنا نحن أبناء الخليج عليها، وكانت الكويت رائدة في التأسيس لها، نظرا لريادتها في الممارسة البرلمانية على مستوى دول المنطقة. فالكويت التي انطلقت مسيرتها البرلمانية منذ قرابة الخمسة عقود باتت تشكل حالة جديرة بالدراسة والمتابعة من قبل المعنيين، ليس لأن التجربة الكويتية تستند على دستور وتشريعات متقدمة هي السند الأساس لتقييم أي تجربة جادة، وإنما أيضا لعدة اعتبارات منها طبيعة أهل الكويت والتيارات التي أثرت وأثّرت فيهم، والتي يمكن من خلالها فهم تجربة الكويت وسر استمرارها على الرغم من فترات الانقطاع الطوعي والقسري التي مرت بها، فهناك النخب السياسية المختلفة وهناك وسائل الإعلام وحرية التعبير، وهناك القبائل بحضورها الطاغي، وهناك طبقة التجار المؤثرة جدا، السند القوي لكل ما تنعم به الكويت من حراك برلماني ودستوري، على الرغم من عوامل التداخل والتباين فيما بينها جميعا، وهناك الغياب الطويل للمرأة الكويتية عن كل المجالس التمثيلية السابقة، حيث انتزعت حقها في الترشح والانتخاب فقط منذ أربع سنوات، إلا أن ذلك لا يعني بأية حال غيابها عن العمل العام وعن الممارسة السياسية، فقد كانت المرأة الكويتية على الدوام في قلب كل الأحداث التي مرت بها الكويت، وكان حضورها اللافت في قضايا الشأن العام والحركة النسائية الخليجية والعربية، ولا غرو أن مثلت المرأة نسبة مشاركة فاقت54,3% في الانتخابات الأخيرة، في حين أن سلبيات المراحل السابقة أصابت عزيمة الرجال تجاه مدى استمرارية التجربة وقدرتها على المضي قدما بكثير من الإحباط حتى من قبل بعض من عايشوا وأسهموا فيها بإخلاص. فقد جاءت الانتخابات الأخيرة لتؤكد للكويتيين ولنا هنا في البحرين أن استمرار الحال من المحال، ويعلمنا التاريخ أن الأمر في نهاية المطاف ليس رهنا بإرادة المنتفعين أو المتسلقين أو الطارئين على مجمل المشهد السياسي أو لقوى التشدد التي وقفت ضد إعطاء المرأة الحق في التصويت وحاربت دخولها البرلمان والوزارة تحت دعاوى الولاية العامة، وعزلت المرأة في الجامعات والحياة العامة وشوهت مجمل العمل السياسي والاجتماعي والنقابي وأعاقت تطوره بفعل ما أحدثته من اختلالات واضحة في بنية وقوام العمل العام وتشريعاته، موظفة لذلك كافة إمكانياتها ونفوذها وصناديقها وخطابها وأموالها وسطوتها. وغني عن القول إن ما أفرزته انتخابات الكويت الأخيرة من صعود مفرح للمرأة الكويتية ربما شكل نقلة نوعية في طبيعة ومعطيات العمل السياسي ليس في الكويت لوحدها، وإنما على مستوى دول المنطقة بأسرها، رغم أن التفاؤل هنا يجب أن يكون موضوعيا، ليأخذ في الحسبان حجم وتعقيدات العمل السياسي والوعي المجتمعي والقدرات المتواضعة لقوى المجتمع المدني التي مازالت محاصرة بحزم من التشريعات المقيدة، حيث يتعذر تشكيل الأحزاب والنقابات والمؤسسات كملامح رئيسة لبناء مجتمعاتنا المدنية التي طال انتظار تبلورها، لتبقى ضمانة أكيدة لعدم السماح بالعودة للمربع الأول كما يراد لشعوبنا أن تكون دائماً.
 
صحيفة الايام
14 يونيو 2009