المنشور

قارعو الأجراس.. !

لا ينبغي أن ندع إشارة سمو ولي العهد رئيس مجلس التنمية الاقتصادية تلك المتصلة بدعوته وحثه « الموظفين العاملين في الشركات الحكومية النفطية وغير النفطية بأن يبادروا بالإفصاح والتبليغ عن أي تجاوزات مالية أو ادارية من أجل الحفاظ على المال العام». لا ينبغي أن تمر هذه الإشارة الصغيرة مرور الكرام، بل لا بد من قراءتها بدقة، ففيها ما يجب أن يؤخذ على محمل الجدية الكاملة لاسيما وأن الإشارات الصغيرة هي في الغالب ذات دلالات كبيرة لا تخفى على ذوي الفطنة، اذ نحسب أنها توحي عن رغبة أو توجه نأمل أن يؤسس لمرحلة جديدة وجادة على صعيد مكافحة الفساد بعد سنوات كثر فيها الحديث عن الفساد ولم يتم فيها إلا اليسير من الخطوات والقليل من النتائج لتستمر معها مسيرة البحث عن الحل للخروج من دوامة الفساد. واذا وضعنا تلك الإشارة في سياق تأكيد سمو ولي العهد « بأن ما نشهده هو بداية الطريق نحو تكريس مزيد من النزاهة والشفافية في البلاد والحفاظ على المال العام ومحاسبة المسؤولين عن أي تجاوزات» أثناء تعقيبه على التسوية التي توصلت إليهـــــا «ألبا» والتي أنهت خلافاً بينها وبين شركة جلينكور السويسرية على خلفية تورط مسؤولين في الأولى تلقوا رشاوى من الثانية. اذا فعلنا ذلك وأخذنا أيضاً في الاعتبار موافقة الحكومة على المضي قدماً في المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وما تلى ذلك من موقف آخر لسمو ولي العهد خلال ترؤسه اجتماع اللجنة التنفيذية لمجلس التنمية الاقتصادية تمثل في ما أبداه من توجيه معلن لكافة المسؤولين للقيام بواجباتهم في متابعة أداء أجهزتهم ومؤسساتهم ومكافحة كافة أشكال الفساد فيها حفاظاً على المال العام التزاماً بقسمهم أمام جلالة الملك، فإنه يمكن أن نسجل تلك الإيجابيات لنستنتج على ضوئها ونرجو أن نكون محقين في هذا الاستنتاج، بأن تطوراً ما يجب أن يحدث على طريق مواجهة الفساد أينما وجد وبكافة الأساليب الرادعة من أجل أن نضع قطار التنمية والإصلاح على السكة السليمة. ولكن…حتى نكون جادين وصادقين وتحديداً فيما يخص مسألة تفعيل دور الموظفين في الشركات الحكومية بأنواعها وتحفيزهم لتقديم الشكاوى والتبليغ عن قضايا الفساد لملاحقة الفاسدين والمساعدة في الحيلولة دون التمادي في العبث بالمال العام والوظيفة العامة، فإنه لابد أن تتبنى الدولة ضمن ما يفترض أن تتبناه من آليات وإجراءات لاسيما تلك التي تقتضيها الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، أن تتبنى الدولة ما يعرف « بقانون قارعي الأجراس» الذي يشجع على التبليغ عن قضايا الفساد، حيث عدم وجود تشريع كافٍ لحماية الشهود والمبلغين قد يعيق هدف تفعيل دور الموظفين والمواطنين في مواجهة كل من يسيء استخدام الوظيفة العامة ويستثمرها لمصالح خاصة، وباتت مثل هذه الحماية في كثير من الدول تشكل حجر الزاوية في جهود حماية المال العام والمحافظة عليه. إن ثقافة التوجه إلى القضاء لملاحقة ومساءلة منتهك أحكام القانون بشكل عام، وقضايا الفساد بشكل خاص لم تتأسس في بلادنا حتى الآن مع الأسف لأسباب واعتبارات عديدة، أهمها عدم وجود تشريع يحمي من يتقدم ببلاغ أو معلومات أو إفادة تكشف فساداً هنا وتجاوزات هناك، سيظل ذلك مبعث خشية أي موظف أو مواطن من أين يكون عرضة لردة فعل أو انتقام شخصي كفقد الوظيفة أو فرصة الترقي، أو المعاقبة بأي طريقة أثناء الخدمة من المتنفذين الذين «ارتكبوا» أو «تورطوا» أو « تمصلحوا» في أي من قضايا الفساد والتجاوزات، وتتعاظم هذه الخشية في ظل عدم ثقة الكثيرين بإمكانية المساءلة الجادة للمتنفذين خاصة وأنهم يرون بأن الوقائع المادية تثبت بأنه لم يقدم أي مسؤول أمام القضاء عن جرائم الفساد والإثراء غير المشروع واستغلال السلطة، مما يجعل المواطن يتردد في الإبلاغ عن قضايا الفساد في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وبات واضحاً أننا نفتقر الى القناعة الكافية بدور المبلغين في الكشف المبكر عن جريمة الفساد أو الوقاية منها، وبأن ذلك يمكن أن يشكل رادعاً وعقبة مهمة أمام الذين يتورطون في أعمال مشبوهة ويعطي الموظف والمواطن بشكل عام وسيلة فاعلة لمراقبة أداء أصحاب المسؤولية مما يعزز من مشاركة الأفراد بشكل خاص والمجتمع بشكل عام في التصدي للفساد بشتى صوره. إيماناً بذلك الدور وتعزيزاً للقدرات على رسم وتنفيذ وتطبيق الآليات التي من شأنها أن توفر الحماية الكافية للشهود والمبلغين، بادرت بعض الدول إلى إنشاء مراكز تتولى الإرشاد القانوني يوفر الدعم والمشورة القانونية لضحايا وشهود الفساد والمبلغين عنه بما يعزز مساءلة ومحاسبة المسؤولين المتورطين في ممارسات الفساد، وتبنت بعض الدول تشريعات تلزم كل من علم بوقوع جريمة من جرائم الفساد الإبلاغ عنها وتقديم ما لديه من معلومات حولها، بل ذهبت بعض الدول إلى تقديم مكافآت مالية لكل من يكشف حالات فساد مالي واداري، واذا ما أدى ما قدموه من معلومات إلى استعادة الأصول أو الأموال التي جرى نهبها أو التعدي عليها، وبات ذلك ركناً أساسياً من أركان منظومة مكافحة الجريمة والفساد من خلال النص على حماية الشهود والمبلغين ضمن اتفاقيات دولية عديدة أبرزها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي نعلم بأن الحكومة قد قررت أخيراً السير على طريق المصادقة عليها، فهذه الاتفاقية اعتبرت حماية الشهود والمبلغين ركناً أساسياً من أركان منظومة مكافحة الفساد والجريمة، كما اعتبرت دول عديدة حماية المبلغين عن قضايا الفساد من الحقوق الأساسية للإنسان التي كفلتها المواثيق الدولية، ووصل هذا الحق إلى مصاف الواجب الذي تنص عليه دساتير بعض الدول، لعل منها دستور مملكة البحرين، فهو ينص في المادة « 9 « فقرة «ب» على أن « للأموال العامة حرمة وحمايتها واجب على كل مواطن». وهذا أمر لابد أن يظل دوماً في اعتبار كل مواطن. نعود إلى إشارة سمو ولي العهد فهي بيت القصيد، لنؤكد ليس فقط على أهمية الحاجة لقانون يوفر الحماية الكاملة للشهود والمبلغين عن قضايا الفساد في مختلف المواقع والجهات حتى لا يكونوا ضحايا لقوى الفساد على ما اقترفوه من تبليغ وكشف حالات الفساد هنا أو هناك، وإنما نحتاج أيضاً إلى قانون يضمن حرية الجمهور للحصول على المعلومات من مؤسسات القطاع العام، وهذا في حد ذاته أمر لا يجب أن يغيب عن أي جهد وطني صادق يستهدف حقاً محاربة الفساد، ولعل ورشة العمل التي انعقدت يوم السبت الماضي بتنظيم من جمعيتي الشفافية والصحفيين أظهرت إلى أي مدى نحن في حاجة إلى كل ما يرسي حق الوصول للمعلومات. إن ما نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى هو أن نجعل محاربة الفساد قضية دولة ومجتمع نترجم من خلالها الشراكة بين الطرفين كمفهوم وكمنهج وفعل لمحاصرة الفاسد والإقرار الرسمي بأهمية هذه الشراكة المجتمعية في مكافحة الفساد وتوفير الآليات التي تحقق هذا الهدف، ولعل من بينها فرض سيادة القانون وتيسير الحصول على البيانات والمعلومات بقضايا الفساد، وبناء تحالفات مجتمعية مناهضة للفساد على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي وتكثيف الوعي بمخاطر الفساد، وتعزيز دور كل مواطن في التصدي للخلل والانحراف والفساد، وإيجاد نظم للنزاهة الوطنية واعتماد مبدأ الشفافية في مكافحة الفساد دون أن ننسى تعزيز دور وحرية الصحافة لكي تقوم بواجبها في هذا المضمار.
 
صحيفة الايام
12 يونيو 2009