المنشور

نتائج الانتخابات اللبنانية.. والمعادلة الصعبة

كيف يمكننا قراءة وتقييم نتائج الانتخابات التشريعية اللبنانية التي أسفرت عن فوز تحالف “14 آذار” بغالبية مقاعد مجلس النواب، وخسارة تكتل “8 آذار” لعدم ربحه تلك الغالبية؟ ثم هل يشكل فوز أي من التحالفين مكسبا للشعب اللبناني وللمصلحة القومية العربية وللعملية السياسية الديمقراطية في لبنان مفتوحة على آفاق رحبة لتطورها؟
في ضوء الإجابة عن هذا السؤال الأخير تحديدا يمكننا تقييم الانتخابات الأخيرة، وهي إجابة تقوم على معادلة فائقة الصعوبة لا يستطيع أي تحالف منتصر في الانتخابات الأخيرة تحقيقها وحده ما لم يستطع توفير شروط تلك المعادلة ذاتها وهي على النحو التالي:
1- أن يمثل مصالح وحقوق غالبية القوى السياسية والدينية والمذهبية للبنان على الأقل.
2- أن يكون قادرا على تحقيق الحد الأدنى من التزام لبنان بقضاياه الوطنية والقومية، وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بحماية أمنه القومي وجبهته الداخلية من المؤامرات الإسرائيلية التي تتربص به، ورسم الطريق الصحيح لاسترجاع ما تبقى من أراض لبنانية محتلة (مزارع شبعا)، والحفاظ على الحد الأدنى المقبول من الالتزامات القومية بما في ذلك الممانعة في وجه الضغوط الصهيونية الدولية لفرض التطبيع على لبنان.
3- أن يكون التحالف المنتصر قادرا على بناء سياسة خارجية مسالمة تقوم على مراعاة وتوخي حماية المصلحة العليا الوطنية اللبنانية، التي لا يمكن تحقيقها إلا بمراعاة طبيعة النظام السياسي اللبناني كنظام ليبرالي ديمقراطي يقوم على الاقتصاد الحر والتعددية، بصرف النظر عن أسس المعادلة الطائفية التي يقوم عليها هذا النظام.
4- أن يمتلك هذا التحالف، أي تحالف كان، حدا أدنى من اللياقة الرياضية السياسية – إن جاز القول – تؤهله لخوض اللعبة السياسية الداخلية بشروطها وأحكامها المستقرة والمتعارف عليها منذ استقلال لبنان أيا تكن الآراء المأخوذة على تلك الشروط والأحكام، ومن ثم العمل على تطويرها بالوسائل السلمية فقط ضمن ذات شروط اللعبة وأحكامها المستقرة، أي بعيدا عن المجابهة والحسم العسكري تحت أي شعار كان.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هل يمتلك أي من التحالفين المهزوم “8 آذار” والمنتصر “14 آذار” على السواء القدرة على تحقيق عناصر المعادلة الأربعة المتقدم ذكرها؟
هنا بالتحديد يكمن مربط الفرس في رسم طريق خلاص لبنان من محنه المستديمة منذ اندلاع الحرب الأهلية المجنونة قبل 30 عاما ونيفا (1975)، فأيهما تتوافر لديه القدرة على تحقيق عناصر تلك المعادلة الصعبة؟ تكتل “14 آذار” المنتصر أم تكتل “8 آذار” المهزوم؟
إن المتفحص المتمعن جيدا ولو بقليل من التجرد والموضوعية في طبيعة القوى السياسية التي يتشكل منها كلا التحالفين وهوياتها السياسية والدينية وخبراتها في الممارسة السياسية سيخلص إلى صعوبة تزكية أي منهما وحده في القدرة على تحقيق عناصر تلك المعادلة الصعبة في ظروف لبنان الدقيقة الراهنة، ذلك أن ثمة قصورا سنجده بهذا القدر أو ذاك لدى كل منهما في القدرة على تحقيق كامل عناصر المعادلة ولو بالحدود الدنيا. فتحالف “14 آذار” يندرج في صفوفه خليط متنافر جمعته تكتيكيا قواسم مشتركة لوضع حد للهيمنة السورية والرغبة في إبعاد النفوذ الإيراني عن لبنان ووضع حد لطغيان نفوذ حزب الله الميليشيوي في القضايا السياسية المصيرية للبنان التي عادة ما يتغطى سياسيا باسم “المقاومة” لتسويغها، لكنه – تحالف 14 آذار – يفتقر إلى توافق منيع في التمسك ولو بالحد الأدنى من التزامات لبنان الوطنية والقومية، حيث تندرج ضمن تركيبته قوى عرفت تاريخيا منذ سني الحرب الأهلية بعدائها الشديد لعروبة لبنان والتزاماته الوطنية والقومية ناهيك عن تحالفها المفضوح مع إسرائيل وأمريكا، لكن تندرج ضمنه في ذات الوقت قوى وطنية وليبرالية ذات تقاليد وخبرات في الممارسة الديمقراطية.
في مقابل ذلك فإن تحالف “8 آذار” القائم على قواسم مشتركة بين حزب الله الشيعي وتكتل ميشيل عون اليميني ضد خصومه المسيحيين لديه ممانعة كافية وخبرات نضالية في المقاومة الوطنية التي يسميها حزب الله “المقاومة الإسلامية” رغم أن لبنان متعدد الطوائف ونظامه ليبرالي، ولدى هذا التحالف أيضا مواقف مبدئية ضد أمريكا وإسرائيل، إلا أنه يفتقر إلى تقاليد عريقة وخبرات في ممارسة اللعبة السياسية وفق شروطها وأحكامها المتعارف عليها وبخاصة العمود الفقري الذي يقوم عليه هذا التحالف ممثلا في حزب الله الحديث النشأة سياسيا والمعروف بذيليته الكاملة للنظام الإيراني لأسباب مذهبية ودينية معروفة، فضلا عن تحالفه المتين مع دمشق. وبالتالي فمن الصعوبة بمكان إذاً أن يحقق هذا التحالف المصلحتين الوطنية والقومية في آن واحد، وفي مطلق الظروف بعيدا عن تداخل مصالح ارتباطاته بطهران ودمشق تماما مثلما هو من الصعوبة بمكان أن يحقق تحالف “14 آذار” المصلحتين الوطنية والقومية بعيدا عن مصالح وارتباطات قوى أساسية فيه بمصالح الولايات المتحدة أو حتى الارتباطات “السرية” لبعضها بإسرائيل.
وبناء على ذلك فإن المعادلة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تطور مرحلي متدرج طويل الأمد يبدأ من إيجاد توافق وطني لقواسم مشتركة بين التحالفين يحقق تقاسما في السلطة بالتراضي، واحترام من كلا الجانبين لقواعد اللعبة السياسية الديمقراطية المستقرة المتعارف عليها في لبنان، ومن دون تحقيق هذه المعادلة يستحيل على أي من الطرفين، سواء المنتصر أو المهزوم في الانتخابات الأخيرة، أن يقود لبنان بمفرده إلى خشبة الخلاص، ومن دون تلك المعادلة فإن لبنان سيظل مرشحا إلى جولات جديدة من الصراعات التي لا يعلم سوى الله مدى اتساعها وعواقبها.

صحيفة اخبار الخليج
11 يونيو 2009