المنشور

تحليل خطاب أوباما في القاهرة ( 1 – 2)

لا شك أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما يمثل لحظة جديدة مهمة في تحول السياسة الأمريكية عن نهج الحروب والعسكرة الذي اعتمدته الحكومة السابقة، التي قامت على شركات السلاح والنفط والمجمع العسكري – الصناعي الأمريكي، فيما كانت إدارة أوباما تعبيراً عن حركة شعبية أمريكية ضد هيمنة تلك القوى التي وجهتْ الأمريكيين نحو حروبٍ ضارية، وبغض النظر عن كونها مصيبة أو مخطئة، فإنها واجهت الأفعال الإرهابية والقوى الاستبدادية الخطيرة في العالم الإسلامي خاصة، بردودِ أفعالٍ عسكرية كاسحة، شعر الأمريكيون بصفة عامة – وتجلى ذلك من خلال المظاهرات العارمة- بأنهم يدفعون ثمنا غاليا من دماء أبنائهم لمخاطر لا يفهمونها ولقوى سيئة غير مدروسة بعناية.
لقد ولّد ذلك كله بما فيه من وعي وجهل هزيمة الإدارة السابقة ومجيء الرئيس أوباما وإدارته، فكان لازما عليه أن يخرجَ من هذا المأزق، ويرفضَ ردودَ الأفعال الحادة للإدارة السابقة، وأن يبحث عن مخرج لهذه الأزمة التي ورطت الولايات المتحدة في حربين مباشرتين باهظتين في العالم الإسلامي أرواحاً تزهق وتكاليف مالية هائلة.
ونتيجة ذلك كله رأت انه لابد من بحث عن مخرج نوعي تحولي.
وكان هذا جزءًا من كون الرئيس الجديد وطاقمه لا يستندون إلى شركات السلاح والنفط والحروب، وهم جزء من قوى مدنية تمثل فئات وسطى لا تتجذر في تلك المؤسسات الكبرى، ولها علاقات معينة مع ميراث الليبرالية في أمريكا: (روزفلت، وكيندي، وكلينتون)، وهي أمورٌ ستلعب دورا كبيرا في إنتاج نظرة سياسية مغايرة للسابق.
ومن جهةٍ أخرى فإن الاستعمارَ بشكلهِ المتوغل والمسيطر يكاد أن يلفظ أنفاسه، فإن الشركات العابرة للجنسية والمسيطرة على الاقتصادات العالمية، لم تعدْ بحاجةٍ كبيرةٍ إلى الحكومات الغربية وجيوشها، فقد فـُتحت لها الأبواب في كل القارات، وصارت الدول(المستعمرَة والمستقلة) تتهافت على حضورها!
ويبدو ذلك جليا في دول أمريكا الجنوبية التي كانت الحديقة الخلفية للولايات المتحدة وكيف راحت تنتخب حكومات يسارية، من دون أن تعترض الجارة الشمالية القوية!
لم تعد حكوماتُ الغرب سوى إدارات لجمع الضرائب وتنسيق المشروعات العامة، وفتح الأسواق لشركاتها وتوفير بيئة مساعدة على التجارة (الحرة)، وهو جانبٌ لم يتجذر بصفة نهائية، لكون القوى الشعبية لاتزال هامشية عموماً، لكنها في لحظات مفصلية تفرض حضورها كحرب العراق.
أوباما هو تتويجٌ لمثل هذه اللحظة التاريخية، لحظة تخفيف العسكرة وتسريع المشروعات المدنية وتطوير أوضاع الشركات غير العسكرية، بعد أن بلعت الشركاتُ العسكرية العالم وقذفت به في أزمة مالية كبرى.
ولهذا فإن مشروع أوباما يستند إلى إعادة الأسواق لحركتها، وتخفيف الاستثمار العسكري الفاشل والباهظ المكلف.
وهذا يحتاج إلى تغيير بؤرة ذلك الاستثمار الفاشل وهو العالم الإسلامي، الذي تجرى فيه عدة حروب مباشرة كبيرة وغير كبيرة وغير مباشرة.
إن هذا يحتاج إلى استراتيجية مغايرة، أساسها هو عزلُ الأطراف المتطرفة الرافضة للحوار والتعاون، عن جماهير الأمم الإسلامية الراغبة في التنمية والسلام.
هذا هو مفتاح فهم خطاب أوباما: عزل القوى المتطرفة الراغبة في المواجهة وفي هزيمة امريكا والغرب، والتعاون والارتكاز على القوى السلمية المحبذة للتعاون المشترك.
هذا التعاونُ يغدو آنيا، لا تـُحلل فيه جذور الاستعمار وتكاليف الحروب الباهظة السابقة والراهنة التي جرت على الأرض العربية والإسلامية، بل تـُقلب صفحات ذلك الكتاب، بجذوره وتكاليفه وأحداثه وجرائمه، ويبدأ من صفحة جديدة.
تتحدد هذه البؤرة المركزية الواسعة بالعديد من الفقرات:
(إن المسألة الأولى التى يجب أن نجابهها هى التطرف العنيف بكل أشكاله).
إن كونها مسألة أولى فهي القضية المشتركة وهي الهم الرئيسي، وماعدا ذلك فهو ثانوي، وبالتالي فإن الجزئيات الأخرى كافة هي مكملة لهذا الهدف الاستراتيجي.
ويضيف:
(وعلى أية حال لن نتوانى في التصدي لمتطرفي العنف الذين يشكلون تهديدا جسيما لأمننا والسبب هو أننا نرفض ما يرفضه أهل المعتقدات كافة: قتل الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال. كما أنه واجبي الأول كرئيس أن أتولى حماية الشعب الأمريكي. ).
ومن هنا فهو يتعرض لبؤر الحروب والمواجهات المحددة هذه، ويعرضُ الإجراءات الحالية والمستقبلية تجاه كل منها، ولكن الحل العام هو في مواجهة المتطرفين وحملة السلاح بالسلاح.
العراق وباكستان وافغانستان والقاعدة هي المناطق الممثلة لبؤرة المواجهة الحالية. والبؤرة الأخرى هي إيران ومشروعها العسكري. هاتان البؤرتان اللتان تمثلان الخطوط الحمراء في الخريطة السياسية له. كما أن حلول المشاكل الأخرى تصب في تخفيف من إشعال تينك البؤرتين. ولكن المشكلة أن القوى في هاتين البؤرتين قادرة على تفجير القضايا الأخرى وجعلها مكان البؤرتين!
أما الجوانب الأخرى من الخطاب فهي جوانب ايديولوجية متعددة تستهدف طرح رؤية أمريكية ليبرالية إنسانية في العلاقة بين أمريكا والمسلمين.
وتتكون هذه الرؤية من لغة عامة، فهو يستخدم مصطلح الإسلام بشكل كلي عام، يركز في الإسلام كمضمون إنساني تنويري، وكجزء آخر من الحضارة الليبرالية الإنسانية، ولهذا يشيد بمنجزات المسلمين التقنية، لكن لا يصل إلى فهم جذور وإشكالية الحضارات الإسلامية المعرقِلة بسبب الإقطاع، وتسلط الدول، فهذه الجذور سوف تقوده لمواجهة العديد من الحكومات والقوى الاجتماعية المحافظة والجامدة في العالم الإسلامي، ولهذا يبقى في مستوى ليبرالية الفئات الوسطى المنفتحة، كما يبقي مواجهته للارهاب في مستوى عنفي، لا يتغلغل في الجذور، وفي علاقات الاستغلال الغربية للعالم الإسلامي، ووجود قوى محافظة عربية إسلامية وشركات رأسمالية كونية تسنزفُ المواردَ وتنتجُ مشكلات العنف والفقر في هذا العالم.

صحيفة اخبار الخليج
9 يونيو 2009