المنشور

جليل النعيمي لجريدة الوطن “الوفر الذي‮ ‬حققته الديمقراطية للاقتصاد والمجتمع‮ ‬يعادل أضعاف ما صرف عليها”


أكد عضو جمعية المنبر التقدمي عبد الجليل النعيمي أن المردودات الاقتصادية غير المنظورة لترسيخ الديمقراطية هي التي تؤمن الاستقرار السياسي للمجتمع. لافتاً إلى أن جميع بلدان العالم معنية بإبراز عامل الاستقرار السياسي كأحد مكونات المناخ الاستثماري الجيد الذي يعزز من جاذبية الاستثمارات وتدفق رؤوس الأموال إلى الداخل.

جاء ذلك في الحوار الذي أجرته (الوطن) حول فاتورة الديمقراطية في البحرين، وما يترتب عليها من إشكاليات وتعقيدات نتيجة المقارنة المتوازنة بين متطلبات الديمقراطية ومخرجاتها.


وفيما يلي نص الحوار:

 ؟ هل الديمقراطية بحاجة للكلفة الباهظة؟ وهل تستحق كل هذه الكلفة المادية والتي قد تكون على حساب برامج تنموية أخرى كالسكن والتعليم وغيرها؟
النعيمي:التساؤل حول ما إذا كانت الكلفة الاقتصادية، وأحياناً الاجتماعية، لبناء النظام الديمقراطي مبررها قديم بقدم ما طرح من حجج لدحضه. ولا يأتي هذا التساؤل من فراغ، بل في العادة من قبل ممثلي قوى اجتماعية محددة ترى في الإجابة عليه بالنفي خدمة كبرى لمصالحها. طبعاً العمليات الانتخابية وبناء المؤسسات الديمقراطية للدولة والمجتمع المدني ونشر ثقافة الديمقراطية والتنمية السياسية وأنشطة التدريب والتأهيل المتعلقة بكل ذلك هي أمور تتطلب نفقات باهظة حقاً. ويدعم أنصار تفادي هذه الكلفة رأيهم بحجج تبدو وكأنها قوية: أليس من الأفضل تخصيص هذه الموارد الشحيحة لتلبية الحاجات الأهم كالسكن والتعليم والصحة وإيجاد أماكن عمل؟  حجج تبدو قوية وتستخدم هذه الحجج كمدخل هام للعودة إلى تنظيرات كانت قد راجت في خمسينات وستينات القرن الماضي في عدد من مناطق العالم، ومنها منطقتنا العربية. وملخصها يقول إنه يكفي وجود سلطة قوية قادرة على طرح برامج تنموية طموحة وقادرة على تعبئة الموارد والطاقات من أجل تحقيق هذه البرامج. وبذلك تستطيع الدولة تحقيق الأهداف التي يرنو إليها المجتمع بدون شراكة قوى المجتمع.  وليس خافياً أن جميع تلك القوى، خصوصاً التي رفعت الشعارات القومية أو القومية الاشتراكية قد فشلت فشلاً ذريعاً في القيام بتنمية حقيقية. بل أنها ساهمت في إضعاف قدرات الدولة وقادت شعوبها إلى فقر مدقع.  ومع ذلك فإن مسقطي تلك الدعوات على عالم اليوم يطرحونها بشكل معدل مروجين لمقولة إن الوحدة الوطنية والتنمية يشكلان طريق المجتمعات إلى الديمقراطية وليس العكس، وأن تسارع نمو الطبقة الوسطى كنتيجة للتنمية هو الذي سيخلق في النهاية طلباً على الديمقراطية. وإذا نمت هذه الطبقة لتصبح أكثرية تصبح الديمقراطية مطلباً شعبياً. جوهر هذا الطرح هو أن الديمقراطية قضية كمالية ليست من حاجات الفقراء، بل الفئات الاجتماعية الأكثر دخلاً وتعليماً.



 

انهيار الطبقة الوسطى

 ؟ في اعتقادكم إذن أن الديمقراطية تستحق أن تصرف عليها التكاليف من أجل بثها في وعي المجتمع وحركة الدولة؟


النعيمي:  واقع الأمر هو أن مجتمعاتنا الغنية بعائدات النفط تشهد خلال العقود الأخيرة انهيار الطبقات الوسطى وليس صعودها. وفي مقابل ذلك يزداد التفاوت والاستقطاب الاجتماعي بين أقلية فوق الطبقة الوسطى وغالبية شعبية دونها. يحدث ذلك لأنه في ظل غياب المؤسسات الديمقراطية وتهميش القوى السياسية وقوى المجتمع المدني واستشراء الفساد يتم توزيع وإعادة توزيع الدخل الوطني بطريقة لا تؤمن لا بناء اقتصاد متين متوازن ولا عدالة اجتماعية.  يختلف الأمر عندما تكون المؤسسات الديمقراطية وقوى المجتمع المدني في وضع يؤهلها للتأثير على العملية التنموية ولو بشكل جزئي. ولنا في تجربة الدور التشريعي الأول للمجلس النيابي مثلاً حين استطاع نواب الكتلة الوطنية الديمقراطية والنواب الآخرين استرجاع مبالغ ‘ضائعة’ في الميزانية بلغت قرابة المليار دينار للعامين 2004 و2005 . كما قام المجلس بإعادة التدقيق في ميزانيات عدد من الوزارات ليحقق وفورات مالية كبيرة. واستطاع النواب استعادة أموال كبيرة ‘ضائعة’ للتأمينات والتقاعد وجرى ترشيد الاستثمار في هاتين المؤسستين. أضف إلى ذلك أن نشاط جمعيات المجتمع المدني كالشفافية وحماية البيئة وغيرها قد ساعدت على فضح ووقف عمليات فساد وانتهاكات للبيئة. وبغض النظر عن كل الجوانب الأخرى فلو قيمنا مردود نشاط القوى السياسية والمجتمع المدني بالدنانير في مقابل ما تم صرفه على بناء وتطوير المؤسسات الديمقراطية وتمويل الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني ونشر الثقافة السياسية لوجدنا أن الوفر الذي حققته الديمقراطية للاقتصاد والمجتمع يعادل أضعاف ما صرف عليها.  دور وزارة التنمية الاجتماعية عدا ذلك فإن كثيراً من جمعيات المجتمع المدني والتي بدأت تنحو بدعم من وزارة التنمية الاجتماعية منحى إنتاجياً في بعض برامجها هي الأخرى يمكن أن تبلور نمطاً جديداً من الاستثمار يعود بالنفع على الاقتصاد وعلى فئات اجتماعية محددة. تصوروا معي لو أن بعض جمعيات المجتمع المدني كجمعيتي الصيادين وسائقي سيارات الأجرة تمكنتا من تحقيق ما سعتا من أجله لتشكيل تعاونيات إنتاجية وخدمية في مجاليهما لكانا قد أدخلا في الاقتصاد نمطاً تعاونياً حيوياً يحاكي مثيله في الدول المتقدمة ويحمي مصالح فئات اجتماعية واسعة ويزيد من إسهامها في الاقتصاد الوطني وفي خدمة المجتمع.

  
  ؟ باعتبارك باحثاً اقتصادياً، كيف تقرأ قضايا التكلفة الديمقراطية مع الحراك السياسي العام خصوصاً في ظل التجارب الديمقراطية المتقدمة؟


النعيمي: تجارب بلدان الديمقراطيات العريقة تبين أن المجتمع المدني فيها قد تحول إلى قطاع ثالث إلى جانب قطاع الدولة والقطاع الخاص يسهم في تكثير الاقتصاد الوطني وأداء الخدمات الاجتماعية. في ألمانيا فقط نما هذا ‘القطاع الثالث’ بنسبة 30 بالمائة بين عامي 1990 و1995.  وأصبح ذا معنى خاص بالنسبة لسوق العمل. فحتى منتصف التسعينات كان عدد الألمان العاملين في القطاع غير الربحي 1,2 مليون مواطن، أو 5 بالمائة من إجمالي العاملين. في بلدان أوربا الغربية الصغيرة مثل هولندا، وأيرلندا، وبلجيكا صعد ‘القطاع الثالث’ في التشغيل إلى مؤشر 10٪.  وهناك من المردودات الاقتصادية غير المنظورة لترسيخ الديمقراطية التي تؤمن في النهاية الاستقرار السياسي. فجميع بلدان العالم معنية بأن تبرز عامل الاستقرار السياسي كأحد مكونات المناخ الاستثماري الجيد الذي يعزز من جاذبية الاستثمارات وتدفق رؤوس الأموال إلى الداخل.
 
تصحيح الوضع الديمقراطي

  إذن ما هي الخلاصة التي يمكن الخروج بها لتصحيح الوضع الديمقراطي؟ وما هي الالتباسات الحاصلة جرّاء استغلال البعض هذا الأمر حسب وجهة نظركم؟


النعيمي: رب قائل يقول: لكن الديمقراطية تفسح في أحايين ليست بالقليلة المجال لقوى غير ديمقراطية بالتحرك عبر آليات الديمقراطية لإضعافها. وهي تستغل ضعف الوعي لدى جماهير واسعة، وخصوصاً النساء لتعبئها وتوظفها بالضد من مصالحها تماماً، وفي النهاية تجعل منها عائقاً لعملية التنمية الاقتصادية الاجتماعية؟ وهذا للأسف صحيح، ويشكل ما يسمى ‘بمصيدة الديمقراطية’. لكن حل مثل هذه المعضلات لن يتأتي إلا عن طريق العمل المتوازي على جبهات، منها: تحسين الظروف الاقتصادية الاجتماعية، ومزيد من الحقوق والحريات وصيانتها، وزيادة الاستثمار في تطوير المؤسسات الديمقراطية، وفي نشر قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتمكين المرأة وإطلاق برامج التنمية السياسية على كل الأصعدة. 

 
الوطن 7 يونيو 2009