المنشور

خطاب أوباما بين التشاؤم والتفاؤل (1-2)

منذ رحيل الرئيس المصري والزعيم العربي جمال عبدالناصر عام 1970 الذي مرت العلاقات المصرية – الامريكية في عهده (1952- 1970) بأسوأ مراحلها من التدهور والمجابهات السياسية المتبادلة ولاسيما خلال عقد الستينيات زار اكثر من رئيس امريكي مصر، خلال عهد الرئيس الراحل انور السادات والرئيس الحالي حسني مبارك، لكن ثمة زيارتان لرئيسين امريكيين تعدان بكل المقاييس تاريخيتين هما زيارة أول رئيس امريكي لمصر منذ قيام ثورة يوليو وذلك في عصر انفتاحها على الغرب خلال عهد السادات بعد أقل من عام على حرب اكتوبر 73، وتحديداً في عام 1974 عندما زار الرئيس الامريكي نيكسون القاهرة واعدت له القاهرة الساداتية حينها استقبالاً “شعبياً” حاشداً تاريخياً في وقت كان اليسار المصري، بشقيه الناصري والماركسي، مازال في عز قوته بما في ذلك الحركة الطلابية.
على ان تلك الزيارة لم تكن تاريخية إلا بمعنى كونها أول زيارة لرئيس امريكي للقاهرة منذ قيام ثورة يوليو عام 1952م، أي بعد مضي 22 عاماً عليها، إذ لم يقدم الرئيس الامريكي نيكسون أي تعهدات او تنازلات تنطوي على تغير في جوهر وثوابت السياسة الامريكية تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي – الاسرائيلي والقائمة على الانحياز لاسرائيل والدعم اللامحدود لها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ضد الحقوق الفلسطينية والعربية المشروعة، اللهم العبارات الانشائية المطاطة الفارغة المضمون عن التطلع لاحلال السلام في المنطقة وانهاء الحروب.
حينها أي أثناء الزيارة عبر الشاعر المصري الشعبي المعروف عن السخطين الشعبي والوطني الحقيقيين ضد تلك الزيارة بقصيدة غناها الفنان الراحل الشيخ امام عيسى يقول في مطلعها مشهراً بفضيحته السياسية المدوية عالمياً التي سرعان ما أطاحت به “ووترجيت”:
شرفت يا نيكسون بابا
يا بتاع الووترجيت
عملوا لك قيمة وسيما
سلاطين الفول والزيت
أما الزيارة التاريخية الثانية لثاني رئيس أمريكي فهي زيارة الرئيس الامريكي المنتخب باراك اوباما للقاهرة فهي تاريخية ليست لكونها الزيارة الأولى في مستهل ادارته فحسب، بل بالنظر إلى لغة الخطاب التاريخية الذي ألقاه من داخل جامعة القاهرة العريقة غداة الذكرى الثمانين لتأسيسها (1908) والذي وجهه مخاطباً ود العرب والمسلمين في وقت وصل فيه عداء وسخط العرب والمسلمين منذ هزيمة 1967 للسياسات الامريكية في المنطقة الى ذروتهما غير المسبوقة تاريخياً.
وعلى الرغم من سيل التعليقات والتحليلات المصرية والفلسطينية والعربية والدولية التي ما فتئت تتواصل على خطاب الرئيس أوباما فإن لا أحد توقف عند مفارقة ذات مغزى حول دلالة المكان الذي وقف فيه اوباما ليلقي خطابه من داخل هذه الجامعة، ألا هو القاعة المسماة باسم “جمال عبدالناصر” التي يراد لمسماها ان يتوارى تاريخيا، أي انها القاعة التي تحمل اسم الرئيس الوطني المصري والزعيم العربي الراحل عبدالناصر الذي عُرف بسياساته المناوئة للمخططات الاستعمارية الامريكية وبتصديه لها، وهي ذات القاعة ايضاً التي شهدت في يناير عام 1972 أشهر واكبر اعتصام طلابي دام اياماً وليالي ضد سياسات خلفه الرئيس الراحل السادات لتلكئه عن شن حرب تحرير الاراضي المصرية المحتلة (سيناء)، وبدايات تقاربه نحو الولايات المتحدة، ولم يكسر ذلك الاعتصام الاحتجاجي إلا بتدخل قوة من الأمن المركزي اعتقلت خلاله عدداً من القيادات الطلابية التي قادت ذلك الاعتصام داخل قاعة جمال عبدالناصر التي سبق ان ألقى فيها خطباً موجهة للطلبة المصريين وللشعب المصري والامة العربية.
لقد وصفنا قبل قليل خطاب اوباما الذي ألقاه من داخل “قاعة جمال عبدالناصر” بجامعة القاهرة بأنه خطاب تاريخي بالنظر إلى لغته الجديدة فقط، وحرصنا على عدم وصفه بأنه “خطاب تاريخي” بمعنى انه ينطوي على تحول جذري في السياسات الامريكية لصالح العرب او نحو سياسات اقل انحيازاً لاسرائيل، فمن الغباء بمكان التوهم بأن خطاب اوباما يتضمن عناصر تؤشر لتحول في ثوابت السياسة الامريكية المنحازة كلياً لاسرائيل والقائمة على دعمها المطلق بمختلف أشكال الدعم على حساب المصالح والحقوق الفلسطينية والعربية.
وهكذا فالمحللون والمعلقون العرب الذين عولوا آمالاً كبيرة من هذا القبيل على الخطاب ثم صدموا بمحدودية تلك الآمال التي أطلقوها مخطئون، والمتفائلون الذين حملوا الخطاب بأكثر ما يحتمل من ايجابيات مخطئون ومتوهمون، والمتشائمون قبل الخطاب وبعده من عدم اعلان الرئيس اوباما تغييراً جذرياً في سياسات امريكا لصالح العرب والمسلمين موغلون في تشاؤمهم ومفرطون في تحاملهم على الخطاب وعلى الرئيس اوباما لتسرعهم في عدم الامعان والتمعن في فقراته وعباراته برؤية فاحصة متأنية بعيدة النظر.
فمن السابق لأوانه الجزم إذاً بأن ما ورد في خطاب اوباما الذي كان أقرب الى اعلان حسن النيات تجاه العالم الاسلامي ينطوي على بداية جادة نحو طريق طويل لاحداث تغيير حقيقي في السياسات الامريكية تجاه المنطقة والعالم الاسلامي، كما من السابق لأوانه الجزم بأنه لن يحدث أي تغيير يذكر في السياسات الامريكية وانها ستظل على حالها نسخة طبق الأصل لسياسات اسلافه الرؤساء السابقين. بل من العسف والظلم نسبياً مقارنته مقدماً بأسلافه.
وبالتالي يمكن القول ان خطاب اوباما صيغ بلغة جديدة ذكية وشبه متوازنة تدغدغ على السواء عواطف العرب والمسلمين من جهة، وعواطف الاسرائيليين من جهة اخرى، إلا انها لغة خطاب رئيس امريكي هي الاولى من نوعها تاريخياً منذ هزيمة .1967 ومن المصادفات ان الخطاب جاء قبل يوم واحد فقط من ذكرى تلك الهزيمة التي قصمت ظهر مصر والعرب وأودت لاحقاً بحياة الرئيس عبدالناصر، ومازال الفلسطينيون والعرب يتخبطون في ظل تداعيات كبوتها المديدة ويدفعون تترى فواتيرها السياسية التاريخية والحضارية.
ومثلما وفق الرئيس اوباما في صياغة الخطاب وعناصره بمهارة وذكاء من دون ان يطلق العنان للتفاؤل المفرط عند العرب والمسلمين المتمعنين جيداً في افكار ذلك الخطاب فقد وفق ايضاً أيما توفيق بأدائه الباهر في طريقة القائه.
 
صحيفة اخبار الخليج
8 يونيو 2009