المنشور

أعمدة الحكمة السبعة وما لم يقله أوباما

يُحار في أمر الرجل الذي ألقى خطابه التاريخي في جامعة القاهرة يوم 4 يونيو/ حزيران الماضي. أهو رجل وعظ ديني أم أنثروبولوجي أم داعية حقوق الإنسان ونصير المرأة أم مؤرخ أم اقتصادي أم خبير وناقد عسكري. فالرئيس الأميركي باراك أوباما قال في جميع هذه الأمور جديدا بخلاف سابقيه. وأيا كان معد خطاب الرئيس أوباما فإنك لتشعر بأن الخطاب خرج من داخل أوباما متضمنا روحه وموهبته. وبما جاء به من جديد ومتقدم فإنه يصلح مادة للتدريس والتثقيف مع الملاحظات التي له وعليه. ففي أحرج لحظات ضعفها التاريخي رزقت أميركا بأقوى رئيس لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد يكون أقوى رئيس على الإطلاق إن استطاع إنقاذها من حالة الأفول التاريخي الذي يعتبر كثير من المفكرين أنها ولجته. غير أن أوباما يجب أن يذهل المحللين والعالم ليس بما قاله فقط، بل وبما لم يقله، أو بما صَمَتَه، وهو ما سنأتي إليه في آخر المقالة.
كان الهدف قد صيغ في خطاب أوباما في تركيا بعبارة ‘أن الولايات المتحدة لا تشن حروبا ضد الإسلام’. وفي خطاب القاهرة الذي توقف عند سبع نقاط ‘التطرف، فلسطين، السلاح النووي، الديمقراطية، الحرية الدينية، حقوق المرأة والتنمية الاقتصادية’ أراد الرئيس أن يسلط الضوء على لوحة الشرق الأوسط المتعددة الألوان، محاولا الابتعاد عن التصور النمطي حول الإسلام. ورغم أنه جاء لينقذ عظمة أميركا التي مرغها سابقوه في الوحل، إلا أنه لم يظل يفاخر بجبروت بلاده كما فعل هؤلاء، بل ركز على أن الجرح الذي أحدثته هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية، دفع أميركا إلى القيام بأعمال ‘تتعارض مع أفكارها وتقاليدها’. أما بالنسبة للمستقبل، ومن دون التفاصيل، فإن أوباما استحضر في خطابه كلمات الرئيس الأميركي السابق توماس جيفرسون الذي قال ‘إنني أتمنى أن تنمو حكمتنا بقدر ما تنمو قوتنا وأن تعلمنا هذه الحكمة درسا مفاده أن القوة ستزداد عظمة كلما قل استخدامها’، واضعا بذلك حدا لأسطورة الحرب الكونية على الإرهاب.
في القضية الفلسطينية كان جديد أوباما ليس إدانة استمرار الاستيطان اليهودي لأراضي الفلسطينيين فقط، بل وتأكيده بجرأة على أن كثيرا من المسلمين يدركون ‘في قرارة أنفسهم أن إسرائيل لن تختفي وبالمثل يدرك الكثير من الإسرائيليين أن دولة فلسطينية أمر ضروري’، وخلاصته بأن: ‘آن الأوان للقيام بعمل يعتمد على الحقيقة التي يدركها الجميع’. وكان جريئا في مصارحة الحكام العرب بأن يكفوا عن استخدام الصراع العربي الإسرائيلي لإلهاء الشعوب العربية عن مشكلاتها الأخرى.
في شأن السلاح النووي كان جديد أوباما هو أنه، ومن دون أن يوجه تهديدات لإيران، أصر على أن من مصلحة كل المنطقة في تجنب سباق التسلح، مؤكدا تصميم الولايات المتحدة للسعي نحو عالم بلا أسلحة نووية. والجديد هو انتقاده بشكل غير مباشر للسياسة التي درجت عليها بلاده بقوله إنه ‘لا ينبغي على أية دولة أن تختار الدول التي تملك أسلحة نووية’، وأن هذا هو ‘سبب قيامي بالتأكيد مجددا وبشدة على التزام أميركا بالسعي من أجل عدم امتلاك أي من الدول للأسلحة النووية’، معترفا لإيران بحق الوصول إلى الطاقة النووية السلمية.
قد يكون أوباما أراح كثيرا من الحكام العرب بالمرونة التي أبداها بشأن مسألة تشجيع قيام الأنظمة الديمقراطية في المنطقة. لكن مطرقته الناعمة كانت قوية في تأكيدها بأن ستواصل الدفاع عن حقوق الإنسان في كل العالم، والتذكير بأن ‘الانتخابات لوحدها لا تصنع ديمقراطية’. أكثر من ذلك أكد على حق الشعوب في التطلع إلى حكم القانون والالتزام بالعدالة والمساواة في تطبيقه و’شفافية الحكومة وامتناعها عن نهب أموال الشعب’، وفي اختيار طريقهم في الحياة، و’أن أمريكا تحترم حق جميع من يرفعون أصواتهم حول العالم للتعبير عن آرائهم بأسلوب سلمي يراعي القانون، حتى لو كانت آراؤهم مخالفة لآرائنا’. هذه الرسائل مهمة بمعنى أن دور أميركا كشرطي عالمي يجب أن ينتهي من جهة، وأن مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان يجب أن تلبى كحاجة داخلية لكل بلد، لكنها تبقى قضية تعني أميركا والحضارة البشرية جمعاء.
جديد أوباما في موضوع الحريات الدينية هو الاعتراف غير المباشر بأن الانقسام في العراق بين الشيعة والسنة قد أدى إلى عنف مأساوي. كما انتقد بعض مظاهر التمييز ضد المسلمين في الغرب داعيا إلى التسامح الديني سواء في الغرب أو الشرق.
في سادس قضية أثارها أوباما وهي قضية المرأة تميز بتأكيده ليس على التزام بلاده بالمضي قدما في البرامج التي تستهدف تحسين أوضاع المرأة وتمكينها من اختيار طريقة عيشها فقط، لكن ليس بالضرورة بنفس الطريقة التي يختارها الرجل.
وأخيرا بشأن التنمية الاقتصادية اعترف أوباما صراحة بأن أميركا ظلت تركز اهتمامها على النفط والغاز في هذا الجزء من العالم.. ‘ولكننا نسعى الآن للتعامل مع أمور تشمل أكثر من ذلك’. وفي جديد النظرة إلى العولمة اعترف صراحة بأنها أحدثت في المجتمعات اختلالات وتغييرات كبيرة مسببة مشاعر الخوف والقلق من فقدان السيطرة على الخيارات الاقتصادية والسياسية الوطنية والأهم من ذلك فقدان الهوية.
وبشأن هذه الأخيرة نتوقف قليلا عند ما لم يقله أوباما. لقد توجه بخطابه إلى العالم الإسلامي، وذكر منظمة المؤتمر الإسلامي بالاسم مرة واحدة، من دون أن يذكر جامعة الدول العربية أو مجلس التعاون الخليجي إطلاقا. ولم يتحدث عن العرب كأمة وهوية وطموحات قومية، أو عن اختراق أميركا إمكانات التكامل الاقتصادي الخليجي، مثلا، باتفاقيات التجارة الحرة الثنائية مع كل بلد على حدة.
وفي اعترافه بخطأ الولايات المتحدة في شن الحروب لتغيير أنظمة البلدان الأخرى لم يدن الحرب على يوغسلافيا وتفتيتها إلى دويلات، وهو ما تم في عهد نظيره الديمقراطي كلنتون. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن وزير خارجيته الحالية هيلاري كلنتون هي زوجته ذلك الرئيس وممثلة يمين الحزب الديمقراطي، وأن وزير الدفاع الأميركي الحالي هو من إرث إدارة بوش التي ينتقد أوباما سياستها العدوانية بمرارة، فإننا أمام اعتراف ناقص عن أخطاء الماضي وأمام برنامج غير واضح عن المستقبل، رغم الخطاب العالي الرقي للرئيس أوباما. فهل سيجيب أوباما لاحقا على أسئلة كهذه بما يعزز مصداقية مضمون خطابه؟
 
صحيفة الوقت
8 يونيو 2009