المنشور

الخليج وأوروبا.. والوحدة النقدية

كان انجاز العملة الاوروبية الموحدة “اليورو” من أكثر انجازات الاتحاد الاوروبي مدعاة للإعجاب الممزوج بالانبهار من قبل شعوب ودول العالم قاطبة ومن قبل شعوب ودول العالم العربي بوجه خاص، وكان السؤال الدافع لهذا الاعجاب الانبهاري: كيف لدول هذه القارة المتعددة القوميات والثقافات والاعراق التي دخلت في حروب وصراعات تاريخية دامية فيما بينها كان آخرها حربين عالميتين مدمرتين: الأولى (1914- 1918) والثانية (1939- 1945).. كيف امكنها ان تتخلى وتتنازل عن عملاتها الخاصة التي تعد رمزاً من رموز سياداتها الحميمية من اجل عملة موحدة؟ وما ينطبق على الاعجاب الانبهاري من تحقق الوحدة النقدية الاوروبية سبقه قبل ذلك اعجاب انبهاري من حرية التنقل للأفراد فيما بين الدول الاوروبية الاعضاء من دون عوائق اقامة أو “فيزا” مسبقة، لا بل ان فيزا واحدة للسائح الاجنبي تكفي بموجب اتفاقية “شنجن” لان يزور معظم دول الاتحاد الموقعة الاتفاقية.
وحينما نقول ان الانبهار والاعجاب يزدادان لدينا نحن العرب فلأننا من اكثر شعوب دول العالم التي ظل يراودها حلم الوحدة فيما بين بلدانها، وظللنا نعتبر انفسنا الاكثر جدارة بتحقيق هذه الوحدة والاكثر امتلاكاً لمقومات ومبررات انجازها. لكن ها نحن وبعد مضي نحو ستة عقود على تحقيق استقلالات أقطارنا العربية تباعاً وقيام الدولة القطْرية لم نستطع ليس فقط تحقيق أي مشروع من هذه المشاريع الوحدوية، سواء على الصعيد الشامل ام على الصعيد الثنائي، ام على الصعيد الاقليمي الجغرافي، لا بل حتى الدولة القطْرية العربية الواحدة تتعرض اليوم لمخاطر التجزئة والتقسيم في عدد من الدول العربية لعل ابرزها السودان، والعراق، والصومال، واليمن، ولبنان، والجزائر، ناهيك عن الحالة التفتيتية والانشقاقية التي تمر بها الوحدة الوطنية الداخلية حاليا في معظم الدول العربية.
واذا كانت المصيبة التي أودت ببعض المشاريع الوحدوية، كالوحدة المصرية السورية، هي اصرار القائمين عليها على أن تكون فورية اندماجية دونما تدرج ودونما مشاركة شعبية في صنع قرارها، او اختيار على الأقل اشكال اخرى من التدرج، كالبدء بأشكال من الوحدة اقل من الاندماج الكامل كالكونفيدرالية او الفيدرالية، فإن البلدان التي نجحت في تحقيق الوحدة الاندماجية الكاملة غداة استقلالها ليست خالية داخليا من النزعات القبلية بين مكوناتها ومشيخاتها. أما دول المجموعة الاقليمية العربية التي صمدت في المحافظة على نوع من الاتحاد الكونفيدرالي (مجلس التعاون) فيما بينها كالدول العربية الخليجية فيكاد لم يتبق من حصيلة مسيرة هذا الاتحاد بعد مرور 28 عاماً على انشائه سوى الاسم واجترار الاجتماعات والمؤتمرات السنوية واستمرار تضخم أجهزة مجالسه ومؤسساته البيروقراطية، وتعدد مؤتمراتها طوال العام من دون طائل اللهم بياناتها الانشائية الرتيبة المتكررة.
والحال ان تلك المجالس والمؤسسات تشكل عبئا مرهقا على ميزانية الاتحاد وميزانيات اعضائه معاً، وبخاصة اذا ما أضفنا إلى ذلك المرتبات والامتيازات المرتفعة من دون مبرر، لموظفي ومديري وامناء تلك المؤسسات والمجالس والمنظمات المتخصصة التي تتبع مجلس التعاون ذاته.
لعل واحداً من أهم اسباب قيام مجلس التعاون على أسس غير وطيدة كونه قد تشكل في المقام الأول انطلاقا من هواجس ومخاوف امنية آنية ابان بدايات الحرب بين العراق وايران التي كانت شعاراتها حينذاك عن تصدير الثورة تقلق جميع دول المجلس وقتها في حين كان مجلس التعاون من المفترض ان يتأسس تاريخيا غداة فشل اقامة الاتحاد التساعي بعيد اعلان بريطانيا عزمها على الانسحاب من شرق السويس (الخليج العربي) عام 1968م في اعقاب انسحابها من جنوب اليمن عام 1967م.
وكم هو مؤلم حقاً ان تعلن احدى الدول الاعضاء في الذكرى الـ28 لتأسيس مجلس التعاون انسحابها من اتفاقية الوحدة النقدية وهي “الانجاز” الذي لطالما حبست شعوب الخليج أنفاسها سنوات طويلة لتراه وقد رأى النور، فيما بات الآن هذا “الانجاز” مجهول المصير.
ولئن كان العرب قد انتابهم الشعور بالخجل والعار وهم يتابعون احتجاجات شعوب العالم الصاخبة المنددة بحرب الابادة التي كانت تشنها اسرائيل طوال 23 يوماً على أهالي غزة المدنيين بأشد الاسلحة تطوراً في الفتك، ومنددين ايضاً بالصمت العربي، فكم هو مدعاة للخجل من قبل شعوب دول مجلس التعاون بوجه عام، ولحكوماتها بوجه خاص، ان يناشد مدير عام منظمة التجارة العالمية باسكال لامي دول مجلس التعاون في ذكرى تأسيسه الاخيرة بألا يجعلوا من قضية مقر البنك عقبة في اكمال وانجاز الوحدة النقدية، وان يعتمدوا البراجماتية وان يتكتلوا كجسم واحد في المحافل الدولية، وبضمنها منظمة التجارة التي يرأسها، بحيث يظهرون كفريق واحد يمكن هذه المنظمة من مساعدة مجلس التعاون.
لكن ما لم يفهمه للأسف مدير منظمة التجارة العالمية ان هذه الخلافات لن تغادرنا ولن نتخلص منها بسهولة وذلك ببساطة لأن اتحادنا (مجلس التعاون) لم يتأسس على ذات المعايير والشروط القانونية والديمقراطية وبضمنها المشاركة الشعبية التي اوصلت الاتحاد الاوروبي الى انجاز العملة النقدية الاوروبية الموحدة، الذي مازال وسيظل يبهرنا ويثير عجبنا.

صحيفة اخبار الخليج
27 مايو 2009