المنشور

ما وراء سيرة صدام حسين (2 – 5)

التكونُ الشبابي لصدام حسين لم يتشكلْ فيه انتقالٌ للحداثة والثقافة، فلم يعطهِ التعلمُ في تكريت مستوى فوق مستوى العامل العادي، فوجدَ نفسَهُ يرحل لبغداد ويتكسبُ عيشه ببيع بعض السلع في الليل.
لم يقدرْ بهذا أن يكون ذا وظيفةٍ مهمة، لكن طموحاتِهِ لا تقفُ عند حد، لقد سَدتْ عملية انطفاءِ المهاراتِ الفكرية لديه سُبل ترقيهِ السلمي، ولم يحاول خلال هذه السنين تعويض ذلك بالتثقيف الذاتي المتواصل العميق، وكانت الشعاراتُ السياسية وخاصة البعثية تحلقُ حول محيطه الأسري والرفاقي بقوة شديدة، من قبل خاله نموذجه العائلي الحميم، لكن خاله اصبح نائياً عنه الآن، وتنظيم البعث محدود، وكان عددُ الأعضاء لا يتجاوز ثلاثمائة شخص، والشيوعيون كانوا ذوي جماهيرية واسعة.
فزاوج بين الرياضة الجسدية واستثمار عضلاته وقواه البدنية، وبين التغلغل في الجماعة السياسية البعثية.
اختيار البعث كان ذا دلالة اجتماعية، فرغم أن العديدَ من البعثيين من المثقفين وبعضهم من المثقفين الكبار، فإن البعثَ ليس تنظيماً جماهيرياً ناضلَ بصورةٍ دائبةٍ بين الجماهير العاملة والفئات المتوسطة واكتنز بالمعرفة من خلالها ومن خلال الجدل مع الواقع، كان حزباً نخبوياً صغيراً، وكذلك اعتمد على مبدأ التسلق السياسي.
إن التسلقَ السياسي يتشكلُ من الأعلى، من قراراتِ القادةِ للالتحاقِ بمؤسساتِ الحكم البارزة، وبالتالي احداث قفزة في وضع الحزب عبر رفده بالأعضاء والأنصار الذين يستفيدون من تسلقه في أجهزة الحكم وعطاياها الوفيرة، لكن النظامَ الملكي الاستبدادي الضيق الأفق تحت إدارة نوري السعيد الضحلة، لم يكن يسمح حتى بمثل هذا التسلق الواسع، فحدثَ التسلقُ في مؤسسةٍ خطيرة هي الجيش، وكان هذا اختزالاً لتاريخ الشرق كله .
إن الأسرَ الريفية المحدودة الثقافة والمهارات التقنية توجه ابناءها للجيش حيث الوظيفة السهلة ذات اليسر المادي، فيقوم البدو أو الفلاحون بنقل مهاراتهم وقوتهم البدنية إلى الحياة العسكرية، ويكسبون معيشة جيدة، مثلما أن التيارات السياسية السائدة بينهم في تلك المرحلة تتغلغل هي الأخرى في الجسم العسكري.
وهذا ما تكون لدى خيرالله طلفاح الذي كان مؤسساً للجانبين: دخول أهله الريفيين الجيش، وإيمانه بالبعث، وهذا ما لاحظهُ صدام وهو يرى ابن خاله يصبحُ عسكرياً وهو الأصغر منه، فيلاحظ كيف أن خاله اهتم بولده ونسيه، وكذلك تقدم للكلية العسكرية ورفضتهُ لضعفِ مستواه الدراسي، فبدأ يركز في ذاتهِ وحديديتِها وصرامتها، وأن يدخلَ الجيشَ من النافذة، بدلاً من الأبواب الشرعية، فقدْ فقدَ قدرتـَهُ على تنميةِ ذاتهِ بشكلٍ ثقافي منظم وعلى تنميةِ ذاتهِ بشكلٍ عسكري منظم كذلك.
وهذا الإصرارُ على العسكرية الذي تولـّدَ من اهتمامهِ بمهاراتهِ البدنية، يعبرُ عن الإرث الاجتماعي العنفي الراسخ لدى هذه القبائل التي تحملتْ الاضطهادات الطويلة واعتبرت القوة هي وسيلتها للحكم والتغيير والشمم العالية. لم تتجذر في إنتاج تحديثي، وعاشت على سير القادة والفاتحين الأبطال قواد الأمة والمذاهب.
وهو ميراثٌ عنفي تجذر في صدام وجعلتهُ الشعارات البعثية يحلقُ في سماءِ الأبطال التاريخيين، لكن الأبواب عبر الجيش سُدت في وجهه، فما كان منه سوى اللجوء للعصابة، لاستخدام العنف في السياسة.
كانت مهاراتهُ البدنية وجرأتهُ ومحدودية ثقافته تؤهلهُ لهذا الطريق، وراحتْ الجماعة البعثية توجههُ نحوه وتخصصهُ فيه، فمن يستطيع القيام باغتيال فلان؟ من يستطيع تكسير رأس الملا الشاتم للبعث؟ من يستطيع الاعتداء على فلان؟ كانت الإجابة دائماً لدى صدام: (أنا استطيع ذلك).
كان تقزمهُ الشخصي بين كتل المثقفين والسياسيين البعثيين أنفسهم، يجعله صموتاً، ومشتعلاً داخلَ نفسه من هذه الهامشية الاجتماعية التي يعيشُها، فيضطرمُ ناراً في داخلهِ، ويريدُ أن يقفز، أن يرتقي إلى الذروة، لكنه لا يملكُ مثل هذه المعارف الغزيرة، ولا مثل هذه الطلاقة البيانية التي يشتهرُ بها مثقفو العراق.
كان طرح مثل تلك المهمات القذرة في وسط حزبي مدني، يعبرُ كذلك عن الطريق المغامر الذي بدأ ينحرفُ فيه البعث، إن حجمَهُ الصغير وطموحاته اللامحدودة التي دخلَ فيها التوحشُ العنفي العراقي، لا يعطيه صعودَ مثل هذه القفزات الكبرى، بل انه لا يكتفي بتوحيد العراق المفتت داخلياً بل توحيد الأمة!
ومن جانبٍ آخر فإن مثل هذه القفزات السريعة في تكوين صغير نخبوي ذي علاقات محدودة بالناس، ويطمح لتلك المهات السياسية الكبرى، لا تؤدي سوى إلى اختزالِ كل شيء، اختزال وحرق المراحل، واختزال وحرق البشر، وفوضوية المهام السياسية وعفويتها وتخريب التطور الاجتماعي عامة.
هنا لا تـُقام أوزانٌ للأخلاقِ والفضائل وتغدو الميكافيلية فاقعة، وسوف تتصاعدُ مهماتُ العنف، بدلاً من التثقيف والدرس والتخطيط لتغيير المجتمع، لا وقت هنا لدرس الأديان، والاتكاء على جوانب منها، وليست هنا علمانية ولا غيرها من الأبنية السياسية الحديثة سوى أساليب الهتلرية، حيث تـُهاجم مقرات الأحزاب الأخرى، وتتفجر الشجاراتُ مع الشيوعيين في السجون وتسيل الدماء بغزارة، وهي مقدماتٌ لما سيأتي لاحقاً من تكتيكات استخدمها هتلر وموسوليني بوفرة.
إن العدمية الدينية هنا لا تعني كذلك إلحاداً بل هي هجرٌ للتاريخين الثقافي الإسلامي والإنساني، واعتماد مصلحة الحزب الذي هو فوق الجميع وفوق الأديان والطبقات. وسيتحول ذلك إلى: أنا صدام فوق الجميع أنا العراق فوق الجميع!
كان طريق العنف فيما قبل ثورة تموز سنة 1958 ساذجاً تافهاً، مثل ضرب رجل دين أو تكسير عظام لشيوعي، وقد بدأ صدام هنا تكوين فريق القوة لديه حيث الحصى والزجاجات والسكاكين هي عدة الشغل، وعملية تجميع مثل هؤلاء الأعضاء الحزبيين لتنفيذ جرائم جعلته يتقاربُ أكثر مع المهمشين والبلطجية والقابلين لمثل هذه العمليات القذرة، التي غدتْ منذ الآن، فيما قبل تموز 58، الفرع الخفي من حزب البعث، أي طابقه التحتي السري لتنفيذ ما تعجزُ عنهُ سياسة الحزبِ الفوقية المدنية، التي تترافقُ مع مصطلحاتِ الحضارة والمدنية الضبابية الملامح والمؤدلجة لتصعيد الدكتاتورية، ولكن الطابقَ السفلي هنا محدودٌ، يقتصرُ على شلةِ صدام، وكذلك بعض الخلايا في الجيش التي تحركتْ بسرعةٍ أكبر حيث يوجدُ نموذجٌ آخرٌ مشابهٌ لصدام وقريبه الأسري وهو أحمد حسن البكر.

صحيفة اخبار الخليج
26 مايو 2009