المنشور

مستقبل الوحدة اليمنية

في السنوات الاولى القليلة من تحقق الوحدة بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي كانت ذكرى قيام الوحدة التي جرت في الثاني والعشرين من مايو عام 1989م عيدا وطنيا حقيقيا يعم ارجاء اليمن الموحد بشطريه، ولكن منذ حرب 1994م الأهلية بين الشطرين التي اكلت الاخضر واليابس في الشطرين وانتهت بهزيمة ما كان يُعرف باليمن الجنوبي وتصفية وتشريد معظم قادة الحزب الاشتراكي، الحزب الحاكم السابق في هذا الشطر والشريك الاساسي الثاني في اتفاقية اقامة الوحدة بين الشطرين، الذي لولاه لما قامت هذه الوحدة، نقول منذ انتهاء تلك الحرب خفت بريق هذه المناسبة السنوية تدريجيا حتى وصلت إلى أدنى خفوتها هذا العام في الذكرى العشرين، ولاسيما في الجنوب، وتركزت مراسم واحتفالات العيد في العاصمة صنعاء وكان أبرزها العرض العسكري الكبير الذي أقامة وحرص على التحشيد الجماهيري له وحضوره الرئيس علي عبدالله صالح.
وقد جاءت الذكرى في ظل مناخ حزين يخيم على اليمن بوجه عام والشطر الجنوبي منه بوجه خاص، نظراً لتجدد الاضطرابات والمظاهرات والمسيرات الشعبية في هذا الشطر احتجاجاً على التهميش وعدم المساواة في الثروة والسلطة والتي تفاقمت إلى درجة الهتافات والمطالبات العلنية بالانفصال، علماً بأن هذه الاضطرابات والحركات الاحتجاجية زادت وتفاقمت على نحو غير مسبوق منذ ثلاث سنوات خلت، حتى بلغت أوجها هذا العام مخلفة خسائر كبيرة في الارواح والجرحى والمعدات والعتاد في واحد من أفقر البلدان العربية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هل كل تلك الاحتجاجات والانتفاضات الجنوبية، سواء ذات الطابع السلمي التي تتخللها أعمال العنف والتخريب وتقابلها أعمال قمع أمنية وحشية هي من صنع أعداء اليمن واعداء الوحدة والاستعمار، ام لها مسبباتها الموضوعية والذاتية الداخلية؟ ولماذا مثل هذه الاضطرابات والحركات الاحتجاجية تتركز في الجنوب على نحو خاص؟ ولماذا بلغ مداها الى درجة المطالبة بالانفصال عن الشطر الشمالي واعادة قيام الدولة الجنوبية السابقة المحلولة بعد اندماج الشطرين؟ وبعبارة اخرى للسؤال: لماذا تتركز الشكاوى من التهميش والتمييز والمطالبة بالانفصال في الجنوب لا في الشمال؟ هل لأن أهل الشمال يعيشون في بحبوحة من العيش الرغيد واكثر وحدويين من الجنوبيين ولا يعانون التمييز والتهميش؟
في الواقع مثلما يعرف اهالي الجنوب، كما يشكون، صنوفاً من الفقر والتهميش واللامساواة يعرف أهل الشمال كذلك هذه الصنوف، ولكن لعوامل عديدة متشابكة لعبت السلطة التي يسيطر على جلها الشماليون عليها تركزت مظاهر الفقر والتهميش في الجنوب أكثر من الشمال، ولاسيما ان الشطر الشمالي هو الاكثر عدداً في السكان والاقدم في خبرة قيام الدولة والاقوى تسلحاً ولم يتم بسبب ذلك توزيع المناصب والقيادات والثروات بالمناصفة في دولة الوحدة.
ان تفسير احداث الجنوب بوصمها مجرد تحركات “انفصالية” هو من قبيل التبسيط السطحي السياسي المخل بتحليل الواقع واخفاء لتضاريس المشهد السياسي المعقد، وما لم تبادر الاطراف المعنية كافة إلى الجلوس الى طاولة حوار وطني جاد لحل الازمة التي تأخذ بخناق البلاد فإنه لا ينفع دائماً الحل العسكري الأمني للحفاظ على الوحدة المعرضة اكثر من أي وقت مضى للخطر والانهيار، ولاسيما ان هذه الوحدة الاندماجية لم تجر على أسس ديمقراطية سليمة متدرجة بل جرت على نحو متسرع فوقي سلطوي أشبه باقامة الوحدة بين مصر وسوريا التي انتهت بالانفصال خلال ثلاث سنوات فقط من اقامتها (1958-1961م).
كان احد الاسباب الرئيسية لنجاح القوى الانفصالية في سوريا استغلال أخطاء القيادات الادارية والتنفيذية المصرية داخل دمشق لتصويرها بأنها متسلطة على الشعب السوري، وبالرغم من وصول حزب قومي بعدئذ أطاح بالانقلابيين الانفصاليين ألا هو “البعث” فإن الوحدة لم تتم إعادة بنائها بين البلدين، رغم ان شعارات هذا الحزب تكاد لا تختلف عن الشعارات الناصرية.
ومن المؤسف أنه في الوقت الذي يصور قادة حزب المؤتمر الشعبي الحاكم في صنعاء أنفسهم الاكثر غيرة وحرصاً على الوحدة ودأبوا على تصوير قادة الحزب الاشتراكي الحاكم سابقاً في جمهورية الشطر الجنوبي أقل غيرة وحرصا على الوحدة، كان قادة هذا الحزب إبان وجودهم في السلطة الاكثر حماسة لاقامة الوحدة والاكثر الحاحاً على التعجيل باقامتها وبخاصة بعد الحالة الكارثية سياسيا واقتصاديا التي نكبت بها دولتهم وشعبهم على اثر الصراع الدموي الذي انفجر في 13 يناير 1986م بين جناحي الحزب الحاكم، وما هي الا ثلاث سنوات حتى عقدوا اتفاقية في ظل ظروف ومتغيرات عربية ودولية بالغة التعقيد، كان أهمها انهيار المعسكر الاشتراكي في اوروبا الشرقية في عام 1989م نفسه، عام الوحدة، ثم حرب الخليج الثانية على اثر الغزو العراقي للكويت عام 1990م.
وكان واضحاً ان قادة الجناح الجديد الذي خرج منتصراً في الحرب الداخلية بين جناحي الحزب يفتقرون الى الحنكة والنضج الكافي الذي كان يميز الجناح المهزوم بقيادة الرئيس الجنوبي الاسبق علي ناصر محمد وهو ما أدى الى تسرعهم من دون تبصر الى عقد اتفاقية وحدة اندماجية فورية.
والحال ان مقولة “أهل مكة ادرى بشعابها” ليست دائماً صحيحة بالمطلق، فكم كانت تنتابنا ونحن في مرحلة الشباب المبكر الدهشة بكيفية إقامة الوحدة بين نظامين سياسيين اجتماعيين مختلفين تمام الاختلاف، لكننا دائماً نبدد دهشتنا بالقول ان قادة الاشتراكي أدرى بشئونهم وأثبتت التجربة أنهم لم يكونوا يملكون البصيرة الكافية، فقد تم الاجهاز على كل ما بنوه وحققوه من مكتسبات تنموية واجتماعية وحقوق للمرأة في الجنوب. والأنكى من ذلك ان احدهم صرح مؤخراً لقناة الجزيرة أننا سقنا أنفسنا الى “فخ” كان يمكن تجنبه، هم الذين قدموا وشعبهم تضحيات هائلة من اجل الاستقلال الوطني عام 1967م ومن اجل توحيد مشيخات وامارات الجنوب المتجزئة والمتصارعة.
وصفوة القول ان التحديات التي تواجه الآن الوحدة اليمنية تثبت على نحو قاطع خطأ وخطورة اقامة الوحدات الارتجالية الفوقية المتسرعة بعيداً عن المشاركة الشعبية الديمقراطية، وبعيداً عن مراعاة المساواة الاقتصادية في توزيع الثروة، وهذا هو مكمن الفارق بالضبط بين نجاح الاوروبيين في وحدتهم وفشلنا نحن العرب في مشاريع الوحدة.

صحيفة اخبار الخليج
25 مايو 2009