المنشور

ما وراء سيرة صدام حسين (1 – 5)

تقع طفولة وفتوة صدام حسين اليتيم الأب بين (تكريت) وقرية (شويش)، بين مدينةٍ صغيرة وقرية ضائعة في الريف، بين بيت خاله العسكري في تكريت، رمز التحديث والوعي القومي وبين تلك القرية حيث تزوجتْ أمهُ الأرملة (صبحة) بـ (حسن إبراهيم) الذي صار عمه.
الخال (خيرالله طلفاح) عضو حزب البعث سُجن في هذه الفترة وهو أمرٌ يشير إلى ارتباط الخال خيرالله بالحركة القومية المتنامية في العراق بصورةٍ معينة، حيث كان من مؤيدي حركة رشيد عالي الكيلاني الذي قامَ بانقلابٍ سنة 1941، لكن الانقلاب فشل في المواجهة العسكرية مع القوات البريطانية وتم اعتقال الضباط المشاركين ومنهم خال صدام خيرالله.
كان الانقلاب يجري في أجواء فكرية هتلرية من قبل الكيلاني الذي كان يرى انتصارات هتلر وصعوده الأخاذ والمدوي في سماء أوروبا بين القوى الاستعمارية القديمة وكان متأثراً بشعارات هتلر، ولم يكن هذا بعيداً عن المثقف ميشيل عفلق الذي ضفر بين أفكار الفاشية والقومية العربية، في ذات السنوات، والذي كان ينسجُ هذه الأفكارَ بين المثقفين بصورةِ مقالات وكتب، ولكن في قطرٍ مجاورٍ هو سوريا منتج الفاشية الأول في المنطقة.
صدام الطفل الذي بلغَ خمس سنوات كان لا يعرف ماذا يحدث، تم اعتقال خاله وغيابه بصورةٍ غريبة مرعبة له، ولم يجدْ راعياً يعتني به، وأُخذ إلى قرية زوج أمه، في مناخ مغاير كثيراً عن تلك الطفولة في رعاية الخال، الذي غدا مثل الأب، فوجد نفسه في كابوس متنوع الصور، فعمهُ زوج أمه كان رجلاً مغايراً كثيراً للخال (المثقف) فهو أمي ولص وسكير عدواني.
خلال خمس سنوات تالية لم يأخذه أحد إلى مدرسة، استخدمهُ العمُ للقيام بسرقات وضربه كثيراً بسادية، ولا يبدو هنا أي دور إنقاذي للأم، وتجمعت صورٌ كثيرة لصدام الفتى في هذه القرية الفقيرة الرثة، كلها مليء بشظف هذه القرية وتضاريسها القاسية، وضعف صلاتها بالمدن والمناطق المجاورة، وبتخلف أهلها، وانتشار الأولاد المراهقين العنيفين، الذين وجدوا في الطفل ثم الفتى صدام مادة مناسبة لإبراز قدراتهم في التعذيب، من هجمات بالحصى، إلى مباغتات في الليل الدامس والضرب المفاجئ برعونة شديدة ولذة، وهي أمورٌ تحدث كثيراً في حياة مثل هذه القرى أو أحياء المدن الفقيرة.
الأحساس بالخطر وهجمات الخارج المعادي وضخامة العالم الشرير المحيط الذي وصل لأسرته وانساق معه مشاركاً في سرقاته وشره وتخلفه، جعله يعتمد على العنف القاسي في الرد عليه إذا اتيحت له الفرصة في ذلك، وهو بشكلٍ سري يقومُ بتدريبِ نفسهِ على القوة والاحتمال حتى تجيء لحظة الهجوم على الخصوم فيجرعهم الغصص نفسها التي أذاقوه إياها بل أشد!
إلحاقه بقرية (شويش) التي يشيرُ اسمُها إلى شيءٍ من واقعها المشوش المضطرب، كان من خلالِ حدثٍ سياسي عام كبير، هو كما قيل سابقاً، واقعة اعتقال الخال وحدوث انقلاب وبدء ظهور الأفكار الهتلرية في هذه المنطقة السنية البدوية، حيث الكثير من الشباب والرجال يلتحقون بالجيش العراقي في العهد الملكي.
كانت الملكية الهاشمية العراقية بناء سياسيا حديثا تكون على إثر ما سُمي الثورة العربية الكبرى في الحرب العالمية الأولى، الإنجليزي التي قامَ بها الحسينُ شريفُ مكة وساعدهُ الانجليز على تشكلها ونموها، وتحولت إلى عصيانٍ مسلح توجه إلى الأردن والشام، ولم يُفلح فيصل بن الحسين في إقامة دولة في سوريا، نظراً لهجوم الفرنسيين، فلجأ للعراق وحوّله الإنجليز إلى ملكٍ على هذه المملكة، التي تفجرتْ فيها ثورة وطنية كبيرة تسمى ثورة العشرين، وظهرت أحزابٌ وصحافة مهمة وبرلمان ولكن فوق جسد مملكة متخلفة إقطاعية مهلهلة التكوين، وتوجهت الأسرة الملكية نحو تقوية أجهزة القوة وخاصة الجيش، ورفده بالقبائل السنية البدوية، وحتى تلك الفقيرة النائية، كما حدث لعميد أسرة طلفاح الضابط خيرالله، الذي انحاز بسرعة لعملية الانقلاب الكيلانية.
ويشيرُ ذلك إلى أنهُ رغمَ تخلف العراق لكنه كان ذا تعاضد وطني، تراجعتْ فيه الأفكارُ الطائفية، وقد كانت إصلاحاتُ (داود باشا) الحاكم النهضوي الوطني السابق للعراق قد هيأته لهذا المستوى التوحدي الوطني البسيط.
ويعبرُ هذا كذلك عن نمو الأفكار التحديثية الشمولية سواءً كانتْ القومية باتجاهها البعثي الهتلري أو الماركسية باتجاهها الستاليني. وانتشارُ هذين الوعيين العنيفين، الدكتاتوريين، بقوةٍ، يعبرُ عن مزاج الكثيرين من العراقيين، المتوجه لحسم قضايا الصراعات السياسية بالعنف الشديد، في حين ان الاتجاهات الليبرالية والسلمية لم تجدْ أصداء كثيرة ومناصرين منتشرين.
كان الخال خيرالله قد وصلتهُ جرعة من هذا المناخ العنفي فقد التحق بالجيش والانقلاب ولم يهتم بطبيعة هذا النظام الملكي (السني) المماثل لمذهبه، بل تملكتهُ فكرة أخرى هي (الأمة العربية) ذات الرسالة الخالدة، التي يجب أن تتحدَ وتزيل الاستعمار، ويمثلُ منظر الاحتلال الانجليزي، وتدخل الضباط الإنجليز في تشكيل الجيش العراقي وغيرهما من المظاهر أحساساً مريراً، مثلما تزايدت هذه المشاعر مرارة مع انتزاع الجزء الأكبر من فلسطين وهزيمة الجيش العراقي وغيره من الجيوش العربية لتحرير فلسطين السليب، وهو بعد الإفراج عنه تحول إلى مدير مدرسة، ورأى هجرة اليهود من العراق بكثافة، مائة وسبعون ألفاً يتمُ دفعهم من قبل نظام نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي للهجرةِ القسرية المنظمة من قبله ومن قبل الانجليز، ولكن مشاعر الخال لم تعتبر هؤلاء مواطنين عراقيين يجري التآمر عليهم من قبل قوى استغلالية شرسة عدة، بل مجرمين يجب قتلهم، أو انتزاع كل أموالهم، وهي فكرة نفذها نوري السعيد حيث حدد مبلغاً صغيراً هو الحد الذي يجب أن يخرج به كل يهودي عراقي نازح لفلسطين! فكانت عملية استثمار مشتركة من قبل الصهيونية والاستعمار والمحافظين العرب المحدودي البصيرة.
حين خرج هذا الخالُ من السجن استعاد صدام شيئاً من توازنه الاجتماعي، فقد ابتعد عن منفاه الاجرامي الأول، واستعاد عالم الثقافة، لكن في لحظة عمرية مغايرة لأترابه فهو ذو اثني عشر عاماً وفي الصف الأول الابتدائي، وجاءتْ مساعدة الخال مدير المدرسة لتتجاوز مثل هذا الفرق، وكان هذا مظهراً أولياً للمساعدات السياسية لصدام لكي يتعلم ويتجاوز إشكالية مستوى تعلمه المتدني، فقد جاءتْ مساعداتٌ أخرى فيما بعد، سياسية هي الأخرى، لكي يحصلَ على شهادةٍ ثانوية وجامعية، لكن مستوى المعرفة لم يتغيرْ كثيراً، فقد كانتْ قراءاتهُ حتى وهو في السجن وعمره يقارب الثلاثين عاماً تتوجه للقصص الغربية المترجمة ذات اللغة الشعبية غير العميقة، أو لكتاب (في سبيل البعث) التعبوي.

صحيفة اخبار الخليج
25 مايو 2009