المنشور

الدروب التي لا تنسى!

شدني كثيرا ذلك العنوان اللافت: «الدروب التي لا تنسى». كم في هذه الدنيا من دروب، لكن بينها دروبا لا تنسى. لقد أودعنا في تلك الدروب فلَذات من أرواحنا، ذاكرة لن تنفك أن تكون حاضرة معنا أينما ولينا شطرنا. لم يكن الكاتب الذي اختار هذه العبارة عنوانا لفصل من كتابه يتحدث عن الذاكرة بوصفها حيزا فرديا، أو حيزا للفرد، ولكنه كان بصدد الحديث عن الذاكرة الجمعية للأمم والشعوب. لكن من منا ينجو من ذلك الربط الذي لامناص منه بين ما نعده فرديا خالصا وما هو جمعي، حين المصير الجمعي يشكل مصائر الأفراد أيضا. هل بوسع أي إنسان فلسطيني مثلا، رجلا كان أو امرأة، أن يفصل بين هذين المصيرين: الم تشكل المحنة الجماعية سيمياء المحن الشخصية للأفراد؟ «ينجز النسيان عمله الماحي – يقول الكاتب – نتيجة ضغط الحاضر، حين تسود أهواء تفتك بالذاكرة، لكن الذاكرة لا تدع نفسها تلغى ، فهي تنتعش وتجعل حفظتها ينبعثون»، أما كيف يحدث ذلك، فلأن الحفظة الأولين يصونون تقديس أماكن الذكرى، إنهم يعارضون بها ناشطي الإنكار الذين لا يريدون أن يظل التذكر باقيا، وأن يكون منقولا إلى الأجيال الجديدة. ما الإنسان إذا لم يكن ذاكرة وفؤاداً. وهذه الذاكرة قمينة بأن تجعله مشدودا إلى تلك «الدروب التي لا تنسى»، إلى تلك الأماكن التي لا تنسى، وبوسع أجيال لم تر هذه الأماكن والدروب، أن ترث من الآباء والأجداد الحنين إليها، شيْ ما ينتقل عبر الدم أو الجينات، بهذا المعنى تغدو الذكرى، لكونها رفيقة اللحظات العادية في الحياتين الفردية والجماعية، مساهمة في بناء الحاضر، في الطريقة التي بها يصلان إلى تماس واحدهما بالآخر». وللذاكرات الجماعية قدرة مدهشة على مقاومة وثبات التاريخ، ففي غضون أسوأ المراحل، تقي نفسها بالانكماش والانطواء في حياة خفية حين يشتد عليها ضغط الظروف أو القهر أو الاستبداد أو الاحتلال أو مصادرة الحرية، ولكن ما أن تخف وطأة هذه الظروف حتى «تنبجس وتتوصل إلى وجود متفجر بمقدار ما يكون قد طال زمن كبتها». في زمن اليوم يجري الحديث عن مفهوم «اللا أمكنة» حيث الاوتوسترادات العريضة الطويلة، وشركات الطيران وخدمات السكك الحديدية ذات السرعة الكبيرة، ثم أن الفنادق ذات الأسماء والماركات وكذلك محال التسوق الضخمة التي تحمل اسما واحدا وشكلا واحدا، لكنها موجودة في كل مكان، تجعل من الغريب العابر يحس بألفة مع هذه الأماكن لأنه يعرفها واعتاد زواياها وممراتها وكيفية التصرف فيها. لكن ما أكثر ما يجد الإنسان نفسه ممزقا بين أمكنة وبلدان عدة، انه في الحقيقة لا يقيم في المكان، إنما يقيم في الوقت، فالعلاقة التي ينسجها مع المكان على مهل بتروٍ بحيث يجد نفسه وقد انغرس في تربة هذا المكان، سرعان ما تتعرض للاهتزاز، حين يتعين عليه أن ينسج علاقة جديدة مع مكان آخر في متوالية تبدو في بعض أحيانها متوالية أبدية.
 
صحيفة الايام
21 مايو 2009