المنشور

“الهولة” بين الإنجازات وعذابات التجنيس

لعل فئة الهولة العربية الخليجية من أكثر الفئات التي عانت بين جذورها وموطنها الأول في فارس وبين انتقالها للمنطقة العربية، على مدى قرون سابقة، فتم التشكك والعزل والقمع لها في موطنها الأول وتم ازدراءها وجعلها في مكانة أدنى وحرمانها من التجنيس سنوات طويلة، في موطنها الجديد.
نتذكر في سنوات سابقة كيف كان هؤلاء الفقراء يُعاملون بقسوةٍ في الأزقة الشعبية، خاصة أصحاب المهن الدنيا، ويُنظر لهم باحتقار، فتــُطلق عليهم ألفاظ تحقيرية مشينة، كأنهم جنس أدنى، ودائماً تتشكلُ الهوة التي يقع فيها هؤلاء مهما حاولوا أن ينتموا إلى المجتمع، فهم دائماً مشكوك فيهم، وأقل إنسانية من غيرهم، سواء واصلوا تقاليدهم الخاصة وألبستهم غير المختلفة مع أهل المنطقة الصحراوية، أو سايروا المجتمع الذي يعيشون فيه تمام المسايرة.
وتغدو ازدواجيتهم بين جذورهم الفارسية التي استفادوا منها معرفة بعض اللهجات الفارسية أو حتى اللغة الفارسية نفسها، وقاموا يتحدثون بها في بيوتهم، وبين حضورهم العربي واتقانهم اللغة العربية، موضع ازدراء كذلك، كأن عليهم أن ينسلخوا تماماً من جذورهم، ويعلنوا مقاطعة أمكنة أجدادهم وتقاليدهم وذكرياتهم.
ويؤدي هذا من ضمن ما يؤديه إلى عدم الاستفادة من هذا التنوع لفئة اغتنت تجربتها بين قوميتين ولغتين عريقتين. ويعبر ذلك أيضاً عن هذه العامية التعصبية المحدودة الوعي والتأثير في المستقبل، ولكنها توسع الفشل واليأس والتخلف في الحاضر.
ورغم كل هذه الصعوبات فإن هذه الفئة لم تسقط في عالم الفشل والتطرف، والتدني الاجتماعي، بل واصلت الصعود في عالم التمايز المذهبي وعالم العداء القومي، وفي عالم الحياة الحقيقية العملية الصعبة، فكثر البارزون والمتفوقون منها في جوانب كثيرة من الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية بنسبة تفوق نسب الفئات السكانية الأخرى تبعاً لأعدادها.
وهذا التفوق غريب لأنه يُفترض بعد كل هذه الصعوبات الجغرافية والأمراض الاجتماعية أن تنهار ويعمها اليأس وتنتشر بينها حالاتُ السقوط والفشل. وهو أمرٌ لم يُدرسْ في الابحاث الاجتماعية، ولكنني أراه مشابهاً لحال العرب من الأصل الفارسي في صدر الدولة العباسية، حيث نبغ هؤلاء في شتى ميادين المعرفة، وأثروا الثقافة العربية أكثر من العرب.
فهم لا يعطون المال بوفرة منذ صغرهم ولا يُدللون بل ينغمرون ويشقون طرقهم في الحياة بعملهم، فتكثر المواهب وتتوجه لما هو أكبر.
وهو جانبٌ يعود كذلك للأصول الاجتماعية لهؤلاء الذين شقوا صفوفهم وسط الفئات الوسطى الصغيرة، كالخياطين والتجار الصغار والطواشين والموظفين، وإن كان من بينهم جماعة فقيرة ظلتْ تعمل بأيديها من دون تطور، في حين شقت الفئة المتوسطة دروبها نحو الارتقاء فأصبحت مع الطفرة النفطية في مواقع متقدمة من الاقتصاد وإدارة الأعمال.
ورغم الخدمات التي قامتْ بها هذه الفئة وتوجهها للأعمال البناءة وخدمة البلد على مدى هذه العقود، ومن خلال الأفكار الإصلاحية غالباً، فإن بعضَ أفرادِها لم يحصلْ على الجنسية البحرينية إلا بعد طلوع الروح، وبعد عذابات سنين طويلة، احتاج فيها إلى هذه الوثيقة لأعمال ضرورية، لكن عدم وجودها أعاقه عن تلك الأعمال، ولعله تسبب في ضيق العيش وعدم الرقي الاجتماعي.
لا شك أن ثمة أناساً من هذه الفئة مازالوا يعانون غياب وثيقة الجنسية هذه، رغم أنهم تجذروا في هذا المجتمع، وربما كانت حالات فردية أو جماعية، ولكن وجودها النادر منها يعتبر غريباً مذهلاً وغبناً فادحاً، خاصة في هذا الوقت الذي أُعطيت فيه الجنسية لفئات واسعة غير متجذرة في هذا المجتمع ولا تعرف تقاليده، وربما أدى هذا إلى خلل بينها وبين بقية المواطنين، لأن المواطنة تاريخٌ وتجربة طويلة وانتماء عميق.
وإذا خرجنا من هذا النطاق الوطني، إلى الخلل التاريخي الذي تسببت فيه علاقات التوتر بين الجانبين العربي والإيراني والذي انعكس على ملايين من البشر بين ضفتي الخليج فهو أيضاً يبعث على الانزعاج وخيبة الأمل، فمنطقة فارس فيها قوى سكانية كبيرة، تقدرها المصادر الإيرانية الرسمية بأربعمائة ألف إنسان يسكنون فيها، ويقدرها آخرون بشكل أكبر بكثير، ومع ذلك فالعلاقات منقطعة، وهناك شبه عتمة كبيرة على هذه المنطقة، رغم الروابط الأهلية والثقافية التي تشكلت عبر العصور.
وفي الوقت الذي تـُقام فيه العلاقات مع دولٍ بعيدةٍ فإن جمهوراً من المواطنين في دول الخليج العربية يفتقد العلاقة مع جذوره، وأهله، فلا يجرى تبادل ثقافي أو تقام جمعيات أو علاقات.
لا شك أن العلاقات السياسية المتوترة لعبت دوراً في تعطيل الجسور الإنسانية بين المنطقتين، وحدث خوفٌ من تبادل المعرفة والصلات، والذاهب إلى هناك كأنه ذاهب لمحيط من العتمة والظلام، والقادم إلى هنا محفوف بالأسئلة والكشافات.
حتى الجوانب الثقافية كترجمة الأدب والسياحة توارت في الظل، وغدت محجورة أو مشكوكاً في أمرها.
ولكن الأكثر من كل ذلك هو هذا التحسس لفئة من المواطنين وكان هذا التحسس مرضياً بشكل كبير في الماضي ولاتزال آثاره تسحب ذيولها على الوقت الراهن.

صحيفة اخبار الخليج
18 مايو 2009