المنشور

أي‮ ‬إصلاح هذا إذن؟

كلنا‮ ‬يتذكر كيف تصدرت فجأة قضية ما تُسمى بالجنات الضريبية‮ (‬Tax heavens‮) ‬المداولات الدولية المتعلقة بالتصدي‮ ‬للأزمة المالية العالمية،‮ ‬حيث نجح القضاء الأمريكي‮ ‬في‮ ‬إجبار بنك‮ ‘‬يو بي‮ ‬اس‮’ ‬السويسري‮ ‬على تجاوز نظام السرية المصرفية‮ ‘‬المحصن‮’ ‬في‮ ‬سويسرا من خلال اتفاق‮ ‬يقدم البنك بموجبه معلومات عن‮ ‬250‮ ‬إلى‮ ‬300‮ ‬عميل أمريكي‮ ‬لديه في‮ ‬سابقة لم تحدث من قبل،‮ ‬وكيف تلى ذلك الاتفاق رفع دعوى من جانب وزارة العدل الأمريكية تطالب البنك السويسري‮ ‬نفسه بتسليمها معلومات عن‮ ‬52‮ ‬ألف حساب سري‮ ‬قيمتها‮ ‬15‮ ‬بليون دولار قالت مصلحة الضرائب الأمريكية إنها تعود إلى أمريكيين‮. ‬وعلى إثرها طالب الاتحاد الأوروبي‮ ‬سويسرا بمعاملة الطلبات الأوروبية برفع السرية المصرفية بالطريقة ذاتها لطلبات واشنطن،‮ ‬وفي‮ ‬حال لم تمتثل سويسرا لذلك فإن الاتحاد الأوروبي‮ ‬هدد بوضعها على لائحة سوداء تقدم إلى قمة العشرين الثانية التي‮ ‬عقدت في‮ ‬لندن أوائل شهر أبريل الماضي‮ ‬تتضمن بلدان الملاذات الضريبية ومناطقها،‮ ‬فكان أن أغضب ذلك عديد الدول مثل لوكسمبورج والصين‮ (‬التي‮ ‬تدافع في‮ ‬هذه الحالة عن مكاو وهونج كونج‮) ‬وكذلك سويسرا وغيرها من المراكز المالية العالمية التي‮ ‬توفر ملاذات لودائع أثرياء العالم،‮ ‬كبارهم وصغارهم بتسهيلات ضريبية مغرية‮. ‬ ونجح المعترضون فعلاً‮ ‬في‮ ‬إثناء قادة قمة العشرين الثانية عن ذكر أسماء الدول التي‮ ‬توفر ملاذات آمنة لرؤوس الأموال المتهربة ضريبياً‮ ‬أو المشكوك في‮ ‬أمرها،‮ ‬حيث تمت الإشارة في‮ ‬البيان الختامي‮ ‬للقمة إلى هذه القائمة السوداء ولكن من دون ذكر أسماء الدول‮.‬ وإذا كانت سويسرا ولوكسمبورج وليختنشتاين والصين،‮ ‬وغيرها من المراكز المالية العالمية التي‮ ‬توفر ملاذات آمنة للأموال المتهربة من الضرائب في‮ ‬بلدانها أو المبيضة من أنشطة‮ ‬غير قانونية،‮ ‬قد اعترضت على المساعي‮ ‬الدولية الرامية لوضع حد لهذه الظاهرة التي‮ ‬ساهمت بقسطها في‮ ‬فوضى اقتصاد السوق التي‮ ‬تكللت بالآزمة المالية والاقتصادية العالمية التي‮ ‬لازالت تحكم خناقها على الاقتصاد العالمي،‮ ‬فإن فرنسـا التي‮ ‬أقامت الدنيا ولم تقعدها خـلال قمة العشرين الثانية في‮ ‬لنـدن في‮ ‬موضـوع‮ ‘‬الجنات الضريبية‮’‬،‮ ‬حيث تمسك رئيسها نيكولا سركوزي‮ ‬بموقفه المتشدد فيما‮ ‬يتعلق بمطالبة بلدان هذه‮ ‘‬الجنات‮’ ‬بوضع حد لنظام السرية المصرفية الذي‮ ‬يستفيد منه المتهربون من الضرائب في‮ ‬أوطانهم وغاسلو الأموال ونحوهم،‮ ‬فيما وقفت الصين موقفاً‮ ‬لا‮ ‬يقل شدة عن موقف رئيس فرنسا دفاعاً‮ ‬عن هونج كونج ومكاو،‮ ‬قبل أن‮ ‬يفض اشتباكهما الرئيس الأمريكي‮ ‬باراك أوباما باقتراح حل الوسط المشار إليه عاليه‮ – ‬نقول إن فرنسا هذه لم تتوان عن توفير الغطاء‮ ‘‬والستر‮’ ‬لمليارات اليوروات التي‮ ‬حذر صندوق النقد الدولي‮ ‬من وجودها في‮ ‬مصارف أوروبية في‮ ‬شكل منتجات سامة‮ ‬‭(‬Poisoned Products‭)‬،‮ ‬حيث رفضت هذه التحذيرات واعتبرتها مبالغاً‮ ‬فيها‮.‬ وإذا علمنا أن تحذيرات صندوق النقد بهذا الشأن تتعلق بتقديرات لسندات مشكوك في‮ ‬إمكانية تحصيلها حتى نهاية عام‮ ‬2010‮ ‬تبلغ‮ ‬نحو أربعة تريليونات‮ ‬يورو‮ ‬يتوقع الصندوق اضطرار المؤسسات المالية الأوروبية لخصمها من قوائم رأسمالها،‮ ‬وليس مجرد بضعة ملايين أو حتى مليارات‮.‬ فعن أي‮ ‬إصلاح اقتصادي‮ ‬تتحدث عنه دول مجموعة العشرين وتحديداً‮ ‬الدول الغربية المسؤولة مسؤولية مباشرة عن اندلاع الأزمة المالية العالمية وامتداد حريقها إلى الاقتصاد الحقيقي‮ ‬في‮ ‬العالم أجمع؟ قلنا ذلك من قبل ونعيد تأكيده الآن،‮ ‬إن كل أحاديثهم عن إعادة الاعتبار للدولة وأجهزتها الإدارية الاقتصادية،‮ ‬وتفعيل وتطوير أنظمتها الرقابية والضبطية،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك الأحاديث عن تزايد احتمالات العودة لتطبيقات الكينزية،‮ ‬قلنا إنها مجرد قنابل دخانية سرعان ما ستذروها الرياح و‮’‬تعود حليمة إلى عادتها القديمة‮’!‬ عبارات الإصلاح الاقتصادي‮ ‬والكلام عن انتهاء الزمن الذي‮ ‬تقوم فيه السوق بدور الحاكم الفعلي‮ ‬للمجتمعات الرأسمالية،‮ ‬هي‮ ‬عبارات وأحاديث‮ ‬غير جدية،‮ ‬تُطلق في‮ ‬لحظات حماس وكرد فعل طبيعي‮ ‬على ما‮ ‘‬هببته‮’ ‬السوق من كوارث اقتصادية واجتماعية باقتصاديات القلاع الرأسمالية العتيدة‮: ‬الولايات المتحدة وأوروبا واليابان‮.‬ ولكن بما أن الإصلاح مرتبط بالضوابط التي‮ ‬هي‮ ‬بمثابة معوقات في‮ ‬أعراف وممارسات أصحاب الرساميل،‮ ‬فإن تطبيقات الإصلاح على الأرض ليست عملية سهلة بالمطلق إذا لم تقترن بميزان قوى اجتماعية‮ ‬يسمح بإحداث التغيير‮.‬
 
صحيفة الوطن
17 مايو 2009