المنشور

الأزمة المالية وديون البلدان الفقيرة

على الرغم من الأزمة المالية الرأسمالية العالمية الراهنة المحتدمة التي تأخذ بخناق شعوب معظم دول العالم الغنية منها والفقيرة على السواء، ولاسيما الأخيرة التي تلقي الأزمة بظلالها الثقيلة على اقتصاداتها الهشة وتتحمل العبء الأساسي في دفع فواتير أزمة خارجية لم تتسبب فيها بل تسببت فيها الدول الغنية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وعلى وجه التحديد الطبقات السياسية والاجتماعية الحاكمة في تلك الدول، فإن الدراسات والبحوث التي تتناول المضاعفات الكارثية المحتملة في حال إذا ما فرض على الدول النامية الفقيرة المدينة ان تستمر في سداد ديونها الربوية الظالمة للدول الغنية الدائنة في ظل الأزمة المالية العالمية الراهنة التي تعصف باقتصاداتها، مازالت دراسات إما معدومة وإما محدودة في أحسن الفروض.
لقد كانت قضية ديون الدول النامية الفقيرة المتراكمة من أعقد القضايا التي ظلت تواجه اقتصادات هذه البلدان منذ نحو ثلاثة عقود خلت، أي منذ بدايات بناء دولها الحديثة المستقلة سواء في إفريقيا أم في آسيا أم أمريكا اللاتينية.
وبالرغم مما بشرت به الدول الرأسمالية الكبرى دول وشعوب البلدان بفتح عصر جديد من الرخاء من خلال ما تقدمه لها من دعم عبر استثمارات شركاتها الكبرى ومنحها القروض الدولية التي تمكنها من بناء بنياتها التحتية ومؤسساتها الخدمية بعد عقود أو قرون من النهب المنهجي الوحشي الذي تعرضت له ثرواتها على أيدي المستعمرين من تلك الدول الغنية ذاتها، فإن الفقر لم يظل ملازما حال شعوب هذه البلدان بل تضاعف عدة مرات ومرات وازداد عدد الفقراء فيها بمعدلات مخيفة تفوق معدلات النمو السكاني في العالم على امتداد أكثر من نصف قرن.
فماذا جنت البلدان النامية الفقيرة إذاً من استثمارات الصناعات والبنوك الأمريكية وغيرها من شركات الدول الغربية الأخرى؟ إذا ما نحينا جانبا العبارات الفضفاضة التي تروجها الطبقات الحاكمة ومنظروها والمتنفذون المستفيدون من تلك الاستثمارات مثل التنمية المستدامة” وتحقيق “التنمية الشاملة” وغيرهما من شاكلة هذه العبارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع بطون شعوب تلك البلدان النامية الفقيرة، فإن حصاد هذه الشعوب من تلك الاستثمارات وحتى الديون التي تلقتها حكوماتها يكاد يكون كارثيا على مختلف الأصعدة والمجالات.
والواضح كما حلل بموضوعية الباحث والأستاذ الجامعي الأمريكي النزيه الدكتور مايكل بيرانتي فإن المساعدات التي تمنحها الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لحكومات العالم الثالث لا تمنحها لسواد عيونها أو لوجه الله بل هي معونات مقيدة بسلسلة من الشروط الظالمة المجحفة، منها أن تصرف هذه الحكومات معظمها على المنتجات الأمريكية، وان تعطي تفضيلات استثمارية للشركات الأمريكية، وان تعطي الأولوية لاستهلاك السلع المستوردة على حساب السلع المنتجة محليا، وهكذا فبدلا من أن تنتشل هذه المعونات الأجنبية الأنانية المسيسة شعوب دول العالم الثالث من مستنقع الفقر التاريخي الذي ما فتئت تغوص فيه وتتخبط منذ قرون في محاولة الخروج منه فإنها تعمق الفقر وتستديم الفاقة المستدامة تحت الشعار البراق “التنمية المستدامة”. ذلك بأن جل تلك الديون والمساعدات والاستثمارات لم تصمم أساسا لمساعدة تلك الدول على مكافحة الفقر وإنما لتضخيم الـ “بيزنس” والاستثمارات ومراكمة الأرباح الخيالية للشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية على حساب شعوب البلدان الفقيرة.
وعادة ما تكون قروض ومساعدات البنك وصندوق النقد الدوليين غير قادرة الدول النامية على سدادها بسبب فوائدها المركبة المضاعفة وانخفاض عوائد صادراتها مما يضطرها إلى الاستدانة مجددا من الصندوق ذاته فتقع تلك الدول تحت طائلة شروط هذا الأخير الابتزازية ومنها فرض تعديلات هيكلية على الدول المدينة ومن ضمنها إجبارها على خفض الضرائب على استثمارات الشركات العابرة للقوميات، وتخفيض الأجور، وحظر أي وسيلة لحماية بضائعها الوطنية. ولا تخلو اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية التي تعقدها الولايات المتحدة مع دول نامية وبضمنها عربية وخليجية على أسس غير متكافئة من تلك الشروط المجحفة التي تعكس حكم إرادة القوي على الضعيف، ومن تلك القيود إجبار هذه الدول على التوسع بلا حدود في مشاريع الخصخصة وبيع كل أو معظم القطاعات المملوكة للدولة وبضمنها الناجحة وذلك تحت ذرائع شتى واهية كالمناجم والسكك الحديدية ومؤسسات المياه والكهرباء والبريد وغيرها من المشاريع ذات الطبيعة الخدمية العامة مما يعرض سواد الطبقات الفقيرة والوسطى المستفيدة منها للأضرار الفادحة، ناهيك عن طرد العاملين في تلك المؤسسات. أكثر من ذلك فإن هذه البلدان كثيرا ما تجبر على فتح غاباتها لاجتثاث أشجارها واصطياد حيواناتها وطيورها النادرة بلا رحمة، وكذلك دفن شواطئها للمشاريع الاستثمارية والسياحية الأنانية الضيقة على حساب المنفعة العامة، كما تضطر هذه الدول إلى خفض مخصصاتها في القطاعات الخدمية الحيوية المهمة كالصحة والتعليم والنقل وغيرها.
والحال أن شعوب البلدان الفقيرة إنما هي واقعة عمليا في فخ الديون بين مطرقة الدول الغنية الدائنة وسندان المتنفذين الفاسدين في حكومات الدول النامية الذين يختلسون معظم تلك القروض والمعونات ويحملون شعوبهم البائسة عبء ذلك الخراب الاقتصادي المضاعف الناجم عن الأرباح الربوية الخيالية لديون الدول الغنية، دع عنك اختلاس رموز الطبقات الحاكمة لها وتحويلها إلى جيوبهم في ظل غياب الشفافية الرقابية الديمقراطية، ولا أحد يعلم مدى اتساع حجم هذه الكارثة ومستقبلها المنظور مع الانفجار المخيف للأزمة المالية العالمية الراهنة.

صحيفة اخبار الخليج
17 مايو 2009