المنشور

عـــبث‮ ‬غـــبي‮ ‬ومــــــؤذٍ


كان يمكن أن نعتبرها مزحة ثقيلة وتعدي كغيرها من ‘القشمرات’ (المزحات) من ذات الصنف والوزن.. وكان يمكن أن نعدّيها ولا نعيرها أدنى اهتمام لو أنها كانت صادرة من صوب إحدى أمكنة وجهات الفرقعات الإعلامية ذات الأمزجة التطبيعية البائسة. ولكن بما أنها صدرت من هنا، من خليجنا العربي الذي استهدفته إسرائيل تطبيعاً أكثر من موريتانيا في المغرب العربي الكبير، فكان لابد أن تكون لنا وقفة تأملية معها..
ونعني بطبيعة الحال مطالبة مرشح برلماني كويتي يدعى صالح بهمن بأن تطبع دولة الكويت علاقاتها بشكل كامل مع إسرائيل. هو شخص مغمور قرر على ما يبدو ركوب موجة التجارة السياسية، التي كثر زوارها على أية حالة في السنوات القليلة الماضية، حتى صارت مزاراً مفتوحاً لكل من هب ودب، مدفوعين بنوازع الجشع والطمع التي غذتها ثقافة الاستهلاك والتواكلية الانتهازية على مدى سنين الطفرات النفطية الثلاث (1979 ,1973 و2003/2008) التي شهدتها بلدان المنطقة العربية في العقود الثلاثة ونيف الأخيرة.
طبعاً الرجل، وبعد أن واجه عاصفة من الاحتجاجات والاستهجانات الرسمية والشعبية الكويتية، تراجع عن تصريحاته واعتذر للشعب الكويتي عما قد تكون سببته له من أضرار (سياسية ومعنوية)، سحب ترشيحه لمجلس الأمة وأعلن التزامه بسياسة بلاده الرافضة للتطبيع مع إسرائيل. نعم حسنٌ فعل، ويا ليته لم يتفوه من ألأساس بتلك الكلمات الخفيفة والاستعراضية المثيرة للسخط والحنق لا لِكَمْ الاستفزاز الذي تنطوي عليه، وإنما لغباء وحماقة مطلقها من حيث مساهمته، هو وأمثاله من هواة العبث السياسي (المصلحي النزعة بالضرورة)، في تعظيم مشكلة خلط أوراقنا والتشويش على أولوياتنا، وإشغال المواقع التنفيذية لصناعة قراراتنا ورأينا العام بتوافه الأمور، ونحن الذين في أمس الحاجة في ظروفنا الراهنة لأعلى درجات التركيز على محور وجوهر اهتماماتنا وأولوياتنا المتمثلة في التحدي التنموي الشامل (السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي) والتحدي الصهيوني، المعيق بحد ذاته، لحركتنا على المسار الأول (التنموي) بسبب استنزافه لطاقاتنا المادية والعقلية واستحواذه على حيّزات كبيرة من أوقات ثمينة نحن بأمس الحاجة إلى استغلال كل فاصل زمني فيها وتوظيفه في الوجهة الصحيحة، ومُعادلها تحديداً، التحديات سالفة الذكر. ناهيك عن أن مثل هذه الدعوات البائسة، سواء أكان إطلاقها لإحداث فرقعة إعلامية تحقيقاً لمآرب شخصية أو فئوية صرفة، أو تحقيقاً لأهداف خاصة بمراكز قوى تذهب إلى ما هو أبعد من الفرقعة، تحمل الكثير من الإساءة لمجتمعاتنا من حيث رهنها تحسن سمعتنا وأحوالنا الاقتصادية والسياسية داخلياً وخارجياً بإقامة علاقات مع إسرائيل(!)، وهو ما يشي بإقرار ضمني بالعجز عن تحقيق ذلك بمعزل عن تحقق شرط هذه العلاقة الآثمة. إنها مرة أخرى ثقافة التواكلية! ولكن مهلاً.. ليست التواكلية وحدها هي مُحرِّك مثل هذه المجاميع والزمر الباحثة عن ‘تجسيد ذواتها’ (Self actualization) وذوات ومصالح أربابها، فهنالك الانتهازية السياسية التي عهدناها في بعض النظم العربية إذ وجدت في التقرب من إسرائيل، سراً في معظم الأحيان وجهراً في نادر الأحيان الاضطرارية، سبيلاً لنيل رضا ‘الباب العالي’ (الأمريكي حكماً) واستدرار حظوة مشروعيته وتغاضيه عن ممارساتها اللاديمقراطية. هكذا، على سبيل المثال لا الحصر، حسبها الرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع عندما كان في الحكم قبل إطاحته من قبل أقرب ‘المخلصين’ له (هكذا تصور على الأقل) في انقلاب عسكري قبل نحو عامين. فلقد أجهد ولد الطايع تفكيره بحثاً عن أنجع الوسائل التي يمكن أن تحقق غايته في الاحتفاظ بالسلطة وجاه السلطة ونفوذ السلطة ومزايا السلطة، وكف ‘أذى’ المعارضة التي راحت تتكاثر وتتكتل ضده، وكذا ‘تحرشات’ المنظمات الحقوقية الدولية التي تلاحقه، وذلك عملاً بالقاعد الميكافيلية الذهبية، فكان أن اهتدى، أو تم إرشاده من قبل أقرب بطانته ومريديه ‘ومستشاريه’، إلى الارتباط مباشرة بإسرائيل أي بإقامة علاقات دبلوماسية كاملة معها واستخدام إقامة بعض الدول العربية لمثل هذه العلاقات مع الدولة العبرية، مسوغاً لمثل هذه النقلة المغامِرة أو التوريطة الكبرى لموريتانيا في دهاليز لعبة لا نملك فيها أدنى مقومات مجاراة لاعبيها الكبار ومنهم اللوبي الصهيوني العالمي ومطالباته وإلحاحاته غير العابئة بعواقبها وبمشاعر الموريتانيين. ونتذكر كيف أن نظام معاوية ولد سيدي أحمد الطايع وجد نفسه في ورطة داخلية وإقليمية فشل من زيّن له فكرتها في إنقاذه منها بعد أن تداعت عليه مشاكل الناقمين من كل صوب، حتى من أقرب ‘حوارييه’! أمثال هؤلاء يعتقدون أن التقرب من إسرائيل (المعادل، ويا للمفارقة اللسانية الموحية، للتبرك بها)، هو بمثابة طوق نجاة ومنحلة عسل صفصاف، ليكتشفوا بعد حين إنما هي النار التي ترفع سخونة الأجسام المقتربة منها. ونتذكر أيضاً معشر رجال الأعمال العرب الذين هرولوا خلف سراب شيمون بيريز وبريق ‘مغرياته الشرق أوسطية’ إبان رواج مقاربة المسار متعدد الأطراف للمفاوضات التي أُطلقت في مدريد في عام 1991 بين العرب وإسرائيل ضمن ‘كومة’ الخدع والأضاليل التي ما فتئت الإدارات الأمريكية المتعاقبة توهم العرب بها كي تحتفظ بهم على مسار اللهاث الماراثوني لمفاوضات قطع الأنفاس. ولما كان ذلكم اللهاث ‘البزنيزي’ غير مؤسس على معايير الجدوى الاقتصادية، من حيث إن السوق الإسرائيلية، بجميع مكوناتها من سوق المواد الخام والمدخلات الصناعية الأولية، إلى سوق الصناعات الثقيلة والخفيفة، لا تتوفر على ميزات تنافسية تحفيزية تفوق ما هو متوفر في الأسواق المجاورة للأسواق العربية مثل السوق التركية والسوق الإيرانية والسوق القبرصية والسوق اليونانية والسوق الهندية، ناهيك عن الأسواق التقليدية لقطاعات الأعمال العربية – وإنما تم دفعه وتحفيزه من منطلقات سياسية صرفة، فقد كان لابد وأن ينتهي إلى فشل. خالص القول، نحن اليوم في العالم العربي لسنا في حاجة ولا في وارد فتح أقنية نقاشات عقيمة في قضايا عبثية مفتعلة قصداً بغرض إشغالنا عن أولوياتنا التنموية وتحدياتنا التي تحول حتى الآن دون استكمال بناء الدولة المدنية العربية الحديثة وترسيخ دعائمها.
 
الوطن 9 مايو 2009