المنشور

حكايات من تاريخنا (73)

المفقود والمولود في “السلمانية”
في خضم الحقب الاستعمارية التي مرت بها بلدان العالم الثالث المتخلفة التي أضحت بعد نيلها استقلالاتها تعرف تأدبا بـ “البلدان النامية” ثمة قلة من رموز النخبة العلمية والمثقفة من البلدان المستعمِرة (بكسر الميم الثانية) ممن وقفوا مواقف موضوعية نزيهة منددين بأوضاع شعوب البلدان المستعمَرة (بفتح الميم الثانية) في ظل استعمار دولهم لهذه البلدان، أو متضامنين ومناصرين لنضالات وحركات تلك الشعوب من اجل الحرية والانعتاق من ذلك الاستعمار والسيادة الوطنية والاستقلال.
مثل هؤلاء الساسة والمثقفين والعلماء الغربيين من ذوي المواقف النزيهة الموضوعية، كشهود عيان على تلك الحقب الاستعمارية المخزية، كم نحن بحاجة الى توثيق شهاداتهم ومذكراتهم حول تلك الحقب السوداء التي رزحت خلالها شعوبنا العربية تحت نير الاسترقاق السياسي الغربي، ولكي تكون أفضل شهادات تدمغ حكوماتهم الغربية بالعار التاريخي على طريقة “شهد شاهد من أهلها”، ولكي لا يسقط حق شعوب هذه البلدان بالتقادم في محاكمة كل مجرمي تلك الحقبة السوداء ومطالبة الدول الاستعمارية بالحق في رد الاعتبار والتعويض المالي حالما تسنح الفرصة التاريخية التي تتمكن خلالها شعوب البلدان المستعمَرة (بفتح الميم الثانية) من فرض تشكيل تلك المحاكم التي تدين الدول المستعمِرة.
ولعل من الكتب النادرة التي أصدرها بعض افراد النخبة العلمية الغربية التي كانت دولها تبسط سيطرتها الاستعمارية على بلداننا العربية، كشهود عيان على أوضاع تلك الحقبة، الكتاب الذي أصدره الطبيب الانجليزي الدكتور سيسيل البورت تحت عنوان “ساعة عدل واحدة.. الكتاب الاسود عن أحوال المستشفيات المصرية (1937-1942)”، وقد صدر قبل بضعة أشهر مترجما عن “دار الهلال”، ترجمة سمير محفوظ بشير. وهذا الكتاب الموزعة مواده على 32 فصلا ويقع في 382 صفحة يرصد بدقة موضوعية الأحوال الصحية التي يئن في ظلها السواد الاعظم من الشعب المصري خلال أواخر ثلاثينيات واوائل اربعينيات القرن الماضي ابان مرحلة تاريخية مفصلية مهمة من مراحل الاحتلال الانجليزي للبلاد وكذلك أوضاع المستشفيات المصرية السائدة في تلك الفترة. ويخرج القارئ المصري أو القارئ البحريني، بل ربما أي قارئ آخر من قراء أغلب الأقطار العربية من الكتاب وكأن مؤلفه يتحدث عن اوضاع مستشفيات مصرية وبحرينية وعربية معاصرة راهنة مازالت كما هي على حالها إداريا وعلاجيا منذ الحقبة الاستعمارية حتى يومنا، هذا بالرغم من انقضاء ما يقرب من نصف قرن أو اكثر على انتهاء تلك الحقبة الاستعمارية السوداء.
ولعل واحدة من اكثر الطوائف التي هي من جنس شر البلية ما يضحك والتي وردت في الكتاب الذي سنعود للحديث عنه مستقبلا، تلك المتعلقة بأصل المقولة الشعبية المأثورة الشائعة على ألسنة البحرينيين منذ سنوات طوال، كتعليق ساخر مرير على تردي أوضاع وخدمات مستشفى السلمانية نتيجة لتفشي وتراكم الأوضاع العلاجية والادارية المزرية التي تفتقر إلى النزاهة والشفافية: “من يدخل السلمانية مفقود ومن يخرج منها مولود”، فقد اتضح لي من قراءة الكتاب ان هذه المقولة رددها المصريون قبل البحرينيين منذ عشرات السنين، وتحديدا منذ حقبة الاستعمار الانجليزي، ولاسيما الفلاحون البؤساء منهم قائلين: “من يدخل القصر العيني مفقود ومن يخرج منه مولود”.
والراجح عندي ان احد خريجي كلية طب القاهرة، ربما من جيل أواخر الستينيات أو السبعينيات، قد سمع بهذه المقولة تتردد إما على ألسنة زملائه طلبة الطب المصريين وإما على ألسنة مرضى القصر العيني، وهو المستشفى الخاص بتدريب طلبة كلية طب القاهرة، وراق له أن يرددها بين زملائه ومرضاه البحرينيين بعد توظيفه، حتى شاعت وترسخت كمثل شعبي حديث على ألسنة عوام الناس كلما تذمروا وشكوا أحوالهم ومعاناتهم المريرة الادارية والعلاجية المزمنة من مستشفى السلمانية.. هذا مع تحوير “القصر العيني” في المقولة المصرية إلى “السلمانية” – لكن ليسمح لنا اشقاؤنا المصريون بهذه السرقة الأدبية اللطيفة، ألسنا كلنا في الهم شرق؟
 
صحيفة اخبار الخليج
7 مايو 2009