المنشور

أصوات الأدلجة

تنطلق أصوات الأدلجة من المصالح الذاتية، تتحجر عند هذه المصالح، لا ترى آفاقاً أخرى، ترى كل شيءٍ جديد بعينِ الماضي، تسحبُ الموضوعات نحو دائرتها، تتظاهر بالتطور، وتتظاهر بأنها مع العالم وتغيراته السياسية، ولهذا لا تدرسُ بشكلٍ موضوعي.
لم تعط الجماعاتُ المهيمنة على السلطات لدوائر المثقفين هذه إمكانياتِ اكتشافِ أشياء جديدةٍ حتى داخل هذه المصالح المحصورة.
هو عزفٌ منفرد، وشدُ حبلٍ، ومواقعُ الأقدام ثابتة لا تتزحزح سوى بضع سنتيمترات، أصواتها معروفة مسبقاً، فهي جوقاتٌ تمارسُ الكلام نفسه، بألفاظٍ مختلفة، ثم تصعدُ الأصواتُ الأسوأ لأنها قادرة على قول الكلام نفسه بعبارات أكثر عامية وسطحية وحادة.
وتغدو المؤتمراتُ العربية هي إعادة جلب لهذه الأصوات على مستوى إقليمي، ولسانُ الحالِ يقول: “نحن نريد من يؤيدنا من الخارج، نريد أن نلمع شعاراتنا ببعض الوجوه المعروفة”.
ويُفترض في المؤتمرات الفكرية أن تكون حرة شفافة، فيها أصواتٌ متصادمة، والحقيقة لا تظهر إلا بصدام الأفكار. إن تقارع الأقطاب يولدُ شرارات المعرفة، أما السكون، والصوت الواحد، فينتجان الضفادع.
حتى أثينا الديمقراطية لم تقبل بسقراط المتسائل المشاغب فكراً، الذي لم يتأدلج طارحاً فقط أهمية السؤال.
وحين أطلقوا على السوفسطائيين ألقاب المشعوذين والانتهازيين، كان هؤلاء في الواقع يدركون نسبية الحقيقة، وأن ما هو صحيح عندك قد يكون خطأ لدي، ما هو جميل عند ملاك العبيد قد يكون قبيحا عند التجار الصغار وبشعا جدا عند العبيد أنفسهم، ولكن العبيد لم تكن لهم أصوات.
في أوضاع الرأسماليات الحكومية العربية تـُنتج أدوات السيطرة المختلفة، ولا تستطيع أن تنتج معارضة حقيقية، ديمقراطية، لأن السيطرة على الأملاك العامة مدة نصف قرن، جعلت من المستحيل نشوء عقول وطنية ديمقراطية واسعة الانتشار، ولهذا فإن الأصوات الحرة غير موجودة، وهي الأساس الذي تبنى عليه ديمقراطية الحداثة.
لكن لدينا ديمقراطية الكراسي، فالناس ليس لها خيار، هي مجرد كائنات أمية تـُنقل بالباصات، وتـُحشد للتصويت، وكل منها يقبضُ شيئاً يسد به رمق أسرته.
ويتم إلحاق أغلبية “المثقفين” بالأجهزة الحكومية وطرق دعاياتها، وهؤلاء تمتنع عقولهم عن رؤية طرق أخرى خارج مأزق ديمقراطية الكراسي، فهم يركزون في ضرب الخصم المكتف، غير القادر على الوصول إلى تلك الشركات الكبرى وخيراتها، والخصم محدد لدى هذه الشركات ومسئوليها السياسيين. والهجوم عليه بسيط، فهو متخلف وعدو للحداثة والتقدم، أو على العكس هو منحرف عن الدين، كافر، متفرنج.
ثم يصير المعسكران في كل بلد ثم على مستوى المنطقة العربية الإسلامية.
إذا كانت الحكومات تسيطر على 80% من شركات الإنتاج الكبرى فكيف يمكن ظهورُ أصواتٍ أخرى؟
هذا هو السؤال.
وتغدو المسألة أكثر خطورة حين لا تجد الحكومات أصواتاً عاقلة، عميقة التفكير من بينها، ويتعبها الصراع فتلجأ إلى الطبالين والمؤججين للصراعات بسوء كلماتهم وانعدام الثقافة لديهم.
لا أحد يقول “دعونا نفتش عن قصورنا كذلك، إن هذه أزمة عامة تحتاج إلى تنازلات مشتركة، إلى صعود المديرين الأكفاء للشركات العامة، إلى زوال الفواتير المتعددة للعملية الاقتصادية الواحدة، إلى إبعاد الأرض عن المزاد السياسي، إلى جعل المذهب خارج المعارك الاجتماعية”.
حتى كبار من يسمون المفكرين يعيشون في الماضي، في الدولة القومية أو الدولة الدينية المنتصرة على الاستعمار والكفر، شعارهم “نحن فقط، والآخرون هم أعداء”، وكل من لديه المشروع القومي الطارد للغرباء ، أو المشروع الديني الطارد للكفار، هو المصيب، والتفافاته وتكتيكاته مقبولة مهما فعل.
وهذه الشعارات ثقافة متأصلة بقوة كبيرة، فهذه الأمم العربية الإسلامية ذات المجد والتاريخ تجد نفسها ملحقة في العربة الأخيرة في قطار التاريخ البشري، وظهرت على سطح قرن التحديث وهي مربوطة بسرتها للقرون الوسطى لاتزال تعيش على فتاتها، لم تحصل على فرص إزالة الأمية والدخول في قوى الإنتاج العصرية. لهذا تركض وراء الشعارات العامة المسطحة المدغدغة لمكامن جراحها، التي تزيدها جراحاً.
وأعضاء الحكومات والمعارضات يشتركون في هذا الخليط الفكري، وكل منهم يقول: “لم نخطئ في شيء”، وإذ يقول قائلٌ منهم: إننا نريد تطبيق الديمقراطية الحديثة الغربية، لا يكلف نفسه عناء رؤية سيطرة الشركات الحكومية على الاقتصاد، وهذا الواقع غير موجود لدى “الديمقراطيات العريقة” في الغرب، فكيف تنشأ ديمقراطية فوق سيطرة حكومية شبه كاملة على الحياة؟
ومن هنا تظهرُ الأدلجة فيقال: “نحن أمة لنا عاداتنا كذلك، لنا خصائصنا المختلفة عن الغرب، ليس كل شيء في الغرب صالحا لنا”.
تظهر وتتصاعد الاستثناءات حتى تزيل الديمقراطية، وتغدو مظهرا خارجيا للمناسبات.
ويقول المذهبيون السياسيون المحافظون بدورهم: “أمة الإسلام أمة مختلفة، لها تكوينها الخالد الباقي على مدى الزمان، والكثيرُ مما يجري في الغرب بعيد عنا، خاصة فيما يتعلق بالأسرة والأخلاق”.
ترحيبٌ حذرٌ شكلاني بالديمقراطية وعدم قبول عميق بها. هو تظاهرٌ بمسايرة العصر، لكن في الأعماق رفض له.
الفريقان يعملان لمصلحتيهما، كل من موقعه، ويتصادمان فوق التبيانات الصغيرة ونقاط التماس الضيقة المحصورة بينهما، فتأتي الديمقراطية لتزيد الالتباس عند المواطن العادي عن هذه الديمقراطية، فهي ديمقراطية توسع الشقة وتعيدُ كل بلدٍ لمرحلةٍ سابقة من الصراع المتخلف، فكل طرفٍ حكومي أو معارض لا يريد أن يتزحزح عما تحت يده من نفوذ.
ومن هنا نرى أن إشكالية “مثقفي” الجانبين إنما تكمن في تسخين الموقف بين الطرفين المتنافسين، في ديمقراطية الكراسي، بدلاً من الغوص في إشكالية مثل هذا الصراع المتخلف، وهي مناوشات تأخذ السطوح والحوادث البارزة والمشكلات الطافحة لتحولها إلى هجمات ضد الطرف الآخر، فأي مشكلة تـُعزل ويغدو الطرف الآخر فقط هو المسئول عنها كمشكلات المواطنين العاديين الذين يقعون ضحايا لسوء الخدمات فحتى هذه يمكن للطرفين العمل لحلها معاً، فالطرفان يمتلكان موارد ومواقع اجتماعية كبيرة، ويمكن أن يقوما بخطط مشتركة، لكن هواجس الصراع تتغلب على التعاون.

صحيفة اخبار الخليج
7 مايو 2009