المنشور

أزماتُ الأريافِ وغليانُ المنطقة (2)

في كلِ بلدٍ تشكلُ أزمة الريفِ جزءاً من أزمةِ التركيبة البنيويةِ للمجتمع، فالاختلالاتُ قديمة، وتوجه المجتمعات العربية والإسلامية نحو الحداثة كان بشكلٍ تلقائي فوضوي، وكان إعمار المدن وتغييرها والارتكاز على ريف متخلف هو الشكل الأساسي، والشكل الثانوي كان إزالة الريف بشكل كامل، عبر العمليات التجارية والاقتصادية نفسها غير السليمة وغير المخططة كذلك.
عموماً أُعتبر الريف مخزناً للمواد الزراعية والحرفية بذات الأسعار المتردية النازلة، فنضبتْ الحقولُ شيئاً فشيئاً، وأخذت تضخ قواها للخارج، أو غدت مادة للصراعات السياسية والعسكرية، وقد تباطأ إيقاعُ لحاقِ الريف بالمدينة، وتراكمت مشاكله وتضخمت فانفجرت.
وتفاقمتْ أزماتُ الأرياف لتصير مشكلة مناطقية مركبة تتفاعل مع بعضها بعضا، وتغذي المشكلات والصراعات بين الدول، ولهذا سنجدُ أن كل حروب العصابات وقلاقل القوميات ومسائل تطبيق الشريعة وتعني الانفصال السياسي، وثورات البدو بشكل القاعدة، وغربة الفلاحين عن الوطن الواحد، هي كلها تفاعلات لمشكلات الأرياف والبوادي المأزومة اقتصادياً والتي لا تجد حلولاً اقتصادية وسياسية وتحيلها إلى صراعات مناطقية.
وليس صعود الاخوان والدينيين عامة وليبرمان في كل من مصر وفلسطين وإسرائيل وغيرها سوى أزمات الأرياف والاستغلال السياسي للأديان وقد تداخلا في ظاهرة مركبة.
عادة يُجيرُ هذا الاستغلالُ المادةَ التراثية المشحونة بتعصب وبغياب أي خطط مستقبلية موضوعية، كما لا تستطيع الدول بمستوى إداراتها الراهنة أن تعيد بناء المجتمعات المندفعة للتحديث الرأسمالي الفوضوي غير الإنتاجي بصورةٍ عامة، فالدول العربية والإسلامية لم تصنعْ الاريافَ، وتحولها إلى مزارع حديثة بشتى أشكال الملكيات.
في أغلب دول مجلس التعاون تمت إزالة الأرياف والبوادي، وكانت هذه الأجسام الاقتصادية العريقة: الأرياف والبوداي، تمثل قوى اقتصادية مهمة وخلفيات وطنية، وكان رقم 85% من السكان المتكدسين في المدن يُعتبر إنجازاً حضارياً في فهم بعض الاجتماعيين الدارسين ولدى الحكومات، رغم انه كارثة، وقاد الالتهامُ التجاري والقضاءُ على المحميات الريفية والبدوية والبحرية، إلى إغراق هذه المدن السائرة بفوضوية رأسمالية في تكوينات اجتماعية وبشرية مضطربة ذات سكان عالميين لا تجانس بينهم ولا وحدة اقتصادية واجتماعية تجمعهم ولا إمكان لأن يشكلوا مدينة حديثة، ثم أخذت هذه المجتمعات تستورد كل شيء نظراً لتصديرها مواد خاماً عالية الأسعار. فهي تغدو للريفيين من الكثير من البلدان ينقلون إليها اضطراباتهم الوطنية والعشائرية والاجتماعية.
ولهذا فإن نتائج هذه السياسات على المدى المتوسط مع انخفاض أسعار المواد الثمينة سيكون حاداً ورهيباً.
في حين إن بلداً مثل إيران حافظت على ريفها بشكله التقليدي، لكن الشكل التقليدي لا يمنع كذلك تفاقم الاضطرابات، وهو أمرٌ يقود السياسة الإيرانية لتصدير مشكلاتها للخارج، والارتكاز على سياسات قومية متطرفة جربتها الأنظمة العسكرية العربية السابقة وفشلت.
محافظة فارس التي يسكنها أربعة ملايين نسمة ضربها الجفاف.
(وقال وزير الزراعة الإيراني، إن الإنتاج الزراعي قد تراجع بنسبة 13 مليون طن منذ بداية العام المالي الحالي من إبريل (نيسان) 2008 حتى مارس (آذار) 2009، مما ساهم في رفع أسعار السلع الغذائية المرتفعة بالفعل. وقامت بتقديم مساعدات بلغت 8،4 تريليونات ريال (528 مليون دولار أمريكي) لـ14 محافظة من أكثر المحافظات المتضررة من موجة الجفاف في إيران في محاولة لتقليل أثر هذه الموجة على المزارعين. ولمعادلة الانخفاض الذي بلغ 13 مليون طن في الإنتاجية الزراعية، قامت إيران بفرض ضرائب على صادرات عدد من السلع الزراعية)، من تقرير لوكالة انباء. كذلك عدلت عملتها، وألغت صفرين من العملة النقدية بسبب تصاعد التضخم لمستويات غير مسبوقة، وقد بلغت قيمة الدولار الامريكي حالياً 9650 ريالاً في حين كانت قيمته تناهز 70 ريالاً عند قيام الثورة الاسلامية في 1979، بحسب وكالة فرانس برس. كذلك اشترت قمحاً من أمريكا لأول مرة ونزلت عن المرتبة الأولى لتصدير الفستق في العالم، الخ.
أما العراق فقد راح يشتري نخيلاً من إيران وآلات زراعية!
ولكن بدلاً من مراجعات للسياسات الزراعية والتنموية واصلت الدولُ عملياتها الاقتصادية بذات الطرق القديمة، خاصة إفقار الأرياف، وراحت تتصارع في العديد من المناطق مستغلة أزمات الأرياف، وقوى السكان الريفيين كذلك، مثلما يحدث في جنوب لبنان، أو اليمن، أو السودان وغيرها.
تعبر هذه السياسات عموماً عن غيابِ رأسماليةٍ منتجة، سواءً من خلال أجهزة الدول، أو من قوى الرأسمالية الخاصة، وهذا يـُنتج مشكلات واضطرابات على مستوى كل دولة، وخاصة في المناطق الريفية التي تضخ مشكلاتها للمدن، كما أن العديد من الدول بدلاً من إعادة النظر في الأزمة البنيوية لمجتمعها تقوم بتصديرها للخارج، أو تحاول أن تقضي عليها بتغيير العمالة أو بإعادة النظر في الهيكل السكاني أو بالتهجير، من دون أن تتوجه للأرياف وتحل المشكلات هناك، في جذورها، في غياب الزراعة أو تدهورها وضعف تقنياتها وعدم حصول الأغلبية الريفية على أراض زراعية أو تعاونيات وغير ذلك من الإجراءات التي تؤدي لتماسك التربة الاجتماعية.
ويحيل الغربُ هذه الأزمة إلى مسائل الارهاب أو ما يسميه تطرف (الإسلام السياسي)، من دون تذكرٍ لإفقار الأرياف الإسلامية خلال نصف قرن.
لكن أزمات البوادي خاصة ومن ثم أزمات الأرياف في الدول العربية الإسلامية على مدى التاريخ تتحولُ إلى حروب، فالفيضُ السكاني الذي يتحولُ إلى أزمةٍ معيشية، يتحول كذلك إلى أزمةٍ أخلاقية، كالتجارة بالأطفال والنساء، وهو أمرٌ يدفع القبائل إلى الحرب.
وتتداخل مع هذه الأزمات المعيشية والأخلاقية الحادة في تلك المناطق البدوية والريفية، غزو (ثقافي) عبر الإعلام الذي يدخلُ الكثيرَ من (المحرمات) والإغراءات لنساء وصبية هذه المناطق، مما يدفعهم من جراء ذلك كله إلى(الانحراف)، ومن هنا يغدو ما يُسمى التشدد وسيلة للقبائل لحفظ أعراضها من الانتهاك وهذا يغذي الجماعات الدينية السياسية وبرامجها في الصراع السياسي المناطقي أو العالمي.
وتغدو الحروب ضد هذه القبائل والمناطق صروفات جديدةً وثاراتٍ لا تتوقف. والحربُ في المنطقةِ العربية الإسلامية هي قاطرة التاريخ ولكن للوراء وللدمار!

صحيفة اخبار الخليج
5 مايو 2009