المنشور

هل هي‮ ‬عودة لـ‮ »‬الكينزية‮« ‬ أم منــاورة التفــاف بارعة عليها؟

مع انتصاف عقد ستينيات القرن العشرين المنصرم،‮ ‬أضحت نظرية الاقتصاد الكلي‮ ‬‭(‬Macroeconomic Theory‭)‬،‮ ‬المذهب الأكثر اعتناقاً‮ ‬من قبل الاقتصاديين عبر العالم،‮ ‬وأضحى صاحبها الاقتصادي‮ ‬البريطاني‮ ‬جون مينارد كينز،‮ ‬العالِم الاقتصادي‮ ‬الأكثر شهرة في‮ ‬العالم‮.‬ فبعد أن كانت مرئيات كينز بشأن أنجع التطبيقات لتحقيق نمو متوازن‮ ‬يستوعب مدخلات الإنتــاج كـافـة،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك التوظيف الكامل لقـــوة العمـــل،‮ ‬مجــــرد أفكار أخرجها كينـــز في‮ ‬قـــالب نظري‮ ‬خصب سطره في‮ ‬كتابه الأشهر‮ ‘‬النظـــريــة العامــة في‮ ‬التــوظيـف والفائدة والنقود‮ ‬‭(‬General Theory of Employment‭, ‬Interest and Money‭)‬‮ ‬نشره في‮ ‬عام‮ ‬‭,‬1936‮ ‬استطاع كينز توظيف أزمة الكساد العظيم التي‮ ‬هزت الاقتصاد الأمريكي‮ ‬والاقتصادات العالمية في‮ ‬1929‮-‬‭,‬1934‮ ‬ليقـدم أجـوبته على الأسئلة الكبرى التي‮ ‬طرحتها أزمة الرأسمالية الكبرى،‮ ‬وملخصها أن انخفاض الطلب الكلي‮ ‬‭(‬Aggregate demand‭)‬‮ ‬يمكن أن‮ ‬يؤدي‮ ‬إلى حالة اقتصادية خطية مفعمة ببطالة واسعة النطاق‮.‬ ولخص كينز نموذجه الاقتصادي‮ ‬في‮ ‬الأدوار التي‮ ‬يلعبها الاستهلاك والاستثمار،‮ ‬ليشرح بعد ذلك الهوية الحسابية لإجمالي‮ ‬الناتج‮ (‬إجمالي‮ ‬الناتج المحلي‮ ‬GDP‭ -‬‮) ‬المعبر عنه بحرف‮ ‬Y‮ ‬والذي‮ ‬يساوي‮:‬ Y‭ = ‬C‭ + ‬I‭ + ‬G حيث‮ ‘‬C‮’ ‬تمثل الاستهلاك،‮ ‬و‮’‬I‮’ ‬الاستثمار،‮ ‬و‮’‬G‮’ ‬الإنفاق الحكومي‮. ‬بحيث أن جميع هذه العناصر تقرر مستوى توازن الناتج الإجمالي‮.‬ وتكمن أهمية نظرية كينز‮ (‬في‮ ‬حينها‮) ‬ليس في‮ ‬قدرتها على تشخيص تفاصيل أزمة الكساد العظيم وتوصيفها وحسب،‮ ‬وإنما في‮ ‬إظهار القدرة على تحقيق توازن باستيعاب شبه كامل لقوة العمل‮.‬ فإذا كان معدل الأجر الحقيقي‮ ‬‭(‬Real wage rate‭)‬‮ ‬يُعدَّل في‮ ‬النموذج الكلاسيكي‮ ‬لدفع الاقتصاد نحو التوظيف الكامل‮ ‬‭(‬Full employment‭)‬،‮ ‬فإن معدل الأجر الحقيقي‮ ‬لا‮ ‬يظهر في‮ ‬نموذج كينز البسيط،‮ ‬حيث إن التوازن‮ ‬يتحقق من خلال إحداث تحويرات في‮ ‬الطلب الكلي‮ ‬الذي‮ ‬يساوي‮ ‬الدخل الكلي،‮ ‬وإن توازن الدخل الكلي‮ ‬لا‮ ‬يفترض توظيفاً‮ ‬كاملاً‮.‬ وقـد أزاحـت نظرية كينز بإجابتها على أسـئلة الكساد والبطالة الإطـار النظري‮ ‬القديم للدورة الاقتصادية والنظرية الكمية‮ ‬‭(‬Quantity theory‭)‬‮ ‬التي‮ ‬تذهب إلى أن النقود لا قيمة لها بذاتها،‮ ‬وأن قيمتها تنالها في‮ ‬نطاق التداول تبعاً‮ ‬لكميتها فيه‮ (‬العرض النقدي‮ ‬‭- ‬Money Supply‮)‬،‮ ‬وأن كمية النقود المتداولة هي‮ ‬التي‮ ‬تحدد أسعار السلع لا أنَّ‮ ‬كمية النقود الضرورية للتداول‮ ‬يحددها مقدار أسعار السلع المتحققة،‮ ‬بمعنى أن السلع تدخل عملية التداول بدون سعر كما تدخل النقود هذه العملية بدون قيمة،‮ ‬مع أن نظرية كينز في‮ ‬التداول النقدي‮ ‬هي‮ ‬في‮ ‬المحصلة خليط من النظرية الكمية والنظرية الاسمية في‮ ‬النقود‮ (‬القائلة بأن النقود ليست سلعة ولا تملك قيمة بذاتها بل لها قيمة اتفاقية،‮ ‬اسمية فقط وتعتبر وحدة حسابية اتفاقية‮. ‬وبما أن الدولة هي‮ ‬التي‮ ‬تخلق النقود وتعطيها هذه القيمة الاسمية فإن النقود الورقية التي‮ ‬تصدرها تصبح نقوداً‮ ‬فعلية،‮ ‬وبالتالي‮ ‬فإن هذه النظرية تبرر نظرياً،‮ ‬هي‮ ‬الأخرى،‮ ‬سياسة الإصدار النقدي‮ ‬المكشوف المؤدي‮ ‬إلى التضخم‮).‬ وطرح كينز شكلاً‮ ‬جديداً‮ ‬للنظرية الكمية مؤداه توجيه الاقتصاد من قبل الدولة للسيطرة على تناقضات الرأسمالية التي‮ ‬قال إن أسباب نقائصها ليست كامنة في‮ ‬طبيعتها وإنما في‮ ‬نفسية الناس،‮ ‬فالبطالة هي‮ ‬نتيجة نقص الطلب الكلي‮ ‬على مواد الإستهلاكين الشخصي‮ ‬والإنتاجي،‮ ‬مُرجعاً‮ ‬ذلك إلى رغبة الناس في‮ ‬إدخار جزء من مداخيلهم وإلى ضعف حافز الرأسماليين في‮ ‬استثمارهم نتيجة لانخفاض ريعية توظيفات الرساميل،‮ ‬واقترح علاجاً‮ ‬لذلك قيام الدولة بتأمين زيادة ريعية الرأسمال عن طريق تخفيض الأجور الفعلية،‮ ‬وخفض معدلات فوائد القروض والسماح بهامش للتضخم بزيادة الإنفاق العام على الأغراض الإنتاجية وغير الإنتاجية‮ (‬التسلح‮).‬ وهكذا فإن كينز قد أعاد الأمور في‮ ‬الاقتصاد السياسي‮ ‬في‮ ‬نصابها بجعل سوق إنتاج السلع والخدمات كميدان أساسي‮ ‬للفعل الاقتصادي‮ ‬بينما العمليات الأخرى ومنها العمليات النقدية،‮ ‬هي‮ ‬عمليات مكملة تجاري‮ ‬العمل في‮ ‬الرواق الأصلي‮ ‬وليس العكس كما ذهبت النظرية الكمية‮. ‬وهو لذلك‮ ‬يشدد،‮ ‬من خلال دالة الدولة،‮ ‬على أهمية تحقيق التوازن العام في‮ ‬الأجل القصير وهو التعادل بين الاحتفاظ بالنقد وبين إطلاقه في‮ ‬التداول أي‮ ‬تعادل الطلب على النقود وعرض النقود،‮ ‬وتحقيق التوازن العام في‮ ‬الأمد الطويل وذلك بين الادخار والاستثمار‮.‬ ‮- ‬للحديث صلة‮ –
 
صحيفة الوطن
3 مايو 2009