المنشور

تعاون عالمي ضد الأجور (3)

اكتشفت الرأسماليتان الغربية الخاصة والشرقية الحكومية وحدتهما المشتركة عبر الصراع والتطور التاريخيين المتداخلين، وعبر التهام الطبقات العمالية بكل شكل ولون.
وما كان تبايناً شديداً تمت رؤية نسبيته، وكونه مرحليا في العملية التاريخية المشتركة، فليس النمطان سوى مرحلتين من تطور العملية الرأسمالية العالمية، قامت الأولى في ظلِ سيطرتها على المواد الخام والعمال والأسواق الواسعة، بشكل مبكر نظرا إلى ظروف خاصة بالقارة الأوروبية والقارة الأمريكية، وكان إنتاجها المتميز المتطور في القرنين الـ19 والـ20 هو ثمرة لتلك التراكمات على أصعدة قوى العمل والعلوم.
ولم يكن لحاق الرأسماليات الشرقية الحكومية تحت واجهات سياسية، وبدعوى رفض الطريق الغربي، نظرا إلى جراح الاستعمار وإلى الجذور القومية والدينية المنتهكة من قبل القوة الأولى، سوى شكل آخر للرأسمالية حاول اللحاق بالشكل الأول وتجاوزه والظهور بمظهر المجدد المتميز المختلف.
وكانت الرأسمالياتُ الغربية، التي ضمتْ كذلك رأسماليات خاصة فتية في قارة آسيا، قد دخلت في حقبة النصف الثاني من القرن العشرين عصر الثورة التقنية والمعلوماتية، وكان هذا العصر قد كشف بوضوح قيادة الرأسمالية الغربية – اليابانية للتطورين الاقتصادي والعلمي في العالم، وعجز الرأسماليات الشرقية بسيادات الدول البيروقراطية، عن اللحاق ليس بالمستوى الجديد من تطورها بل حتى بالمستوى القديم.
ولم تكن هذه سيادة في الفراغ، بل كانت سيادة بضائعية متطورة من نوع جديد، واستغناء عن الكثير من المواد الخام، وعن الكثير من المصانع القديمة، وهي كلها أمور فجرت العديد من أغلفة الأنظمة الشرقية الاستبدادية.
أخذت التطورات الجديدة تغزو المنظومات الشرقية المتعددة المستويات، فتتخلى هذه عن الاقتصادات القديمة المتكلسة، وتحرر أقساما من الاقتصاد، وتسمح بقطاعات خاصة كبيرة، وتقوم بتقليد السلع الغربية المتطورة، خاصة في بلدان الصين وروسيا وجنوب شرقي آسيا والهند والبرازيل وغيرها من الدول، وكما هي العادة فقد لعبت قوى العمل دورها في تفجير طاقات هذه الدول، ونقلها إلى مستويات تطور جديدة.
إن ضعف الأجور وتدنيها لعبا مرة أخرى دورهما في تفجير هذه الطاقات، وفي انتقال الثورة التقنية للدول الآسيوية ذات القوى العمالية الواسعة، والأسواق الكبيرة، وهذا أثر بدوره في وضع العمال المتميز في دول الغرب.
قام العديد من الشركات العالمية بالانتقال إلى دول مثل الهند تجد فيها حريات اقتصادية واسعة وقوى عمل هائلة ورخيصة ومتقدمة.
إن العملية الرأسمالية المتطورة بوصولها إلى دول الشرق اطلقت حركة كبيرة فيها، وانتقل جانب كبير من التحديث إلى الشرق، وبهذا حدث تداخل على مستوى جديد بين الرأسماليتين العالميتين، وهو تداخل مباشر وعالمي مختلف، فلم تعد الرأسمالية المتطورة الغربية ذات مكان جغرافي محدد محصور برقعة جغرافية، بل صارت كونية، ولكنها كونية مرتبطة بالأجور وتدنيها، لا بارتفاعها وتطورها، إلا إذا اعتبرنا أن العمال في بعض دول الشرق حصلوا على أجور مرتفعة قياساً لما تقدمه الرساميل المحلية.
لكن هذا التداخل بين الرأسماليتين العالميتين يمثل حلقة جديدة من التطور التاريخي للمنظومة الرأسمالية المعقدة والمركبة، فنحن هنا أمام رأسمالية ذات مستوى متطور ورأسمالية ذات مستوى متخلف تصطدمان بقوة خلال بضع سنوات، مما ولدت ظاهرات بالغة الحدة والثراء والتنوع والخراب كذلك.
كوكبان يصطدمان ويولدان جسما ثالثا، قد يكون مسخا وقد يكون وليدا جديدا ذا تكوين انتقالي لرأسماليات حكومية ديمقراطية، يلعب فيها العمال دورا مغايرا مختلفا عن دور البقرة الحلوب ويشاركون في الحكومات على أساس كونهم ممثلين للطبقات العمالية بشكل حقيقي وليس أدوات للطبقات الاستغلالية المتوارية تحت لافتتهم.
وفيما تزدهر الهند بشركات التقنية المتطورة، فإنها لاتزال تعيش ريفا اقطاعيا متخلفا، فيما تغدو الرأسماليات الحكومية على نمط روسيا والصين أكثر قابلية للتطورات الثورية في وسائل الإنتاج العصرية، فيما يتزعزع بعض الرأسماليات الغربية الكبرى. يطلق زعيم ألماني من جمهورية ألمانيا الاتحادية على الرأسمالية في بلده بأنها “رأسمالية الجراد”، ويقول:
“في الآونة الأخيرة بلغ هذا التناول الانتقادي الجديد للرأسمالية ذروته في سلسلة من الهجمات التي شنها زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي فرانتز مونتيفيرينج، فقد اتهم رجال الأعمال الذين ينقلون الإنتاج إلى الدول ذات الأجور المتدنية بأنهم يؤكدون بهذا فرط جشعهم، وافتقارهم إلى الإحساس بالمسئولية الاجتماعية. ثم شبه مديري صناديق الأسهم الدولية بوباء الجراد الذي يحتل الشركات ويستغلها ثم ينتقل إلى غيرها بعد أن يكون قد أتم عمله التخريبي وأجهز عليها”، (فيرنر- سين، مدير معهد Ifo البحوث الاقتصادية في ميونخ).
وفيما تقوم الرأسماليات الخاصة بتطور جديد في دول الشرق المنهكة من السيطرات الحكومية، فإن الرأسماليات الخاصة بحاجة إلى التغييرات الشعبية والحكومية الديمقراطية في الغرب.
مساران مختلفان، ومركبان، يرسمان حركة تاريخية مختلفة للرأسمالية العالمية، لا تبدو لنا الآن سوى بضعة ملامح من تكوناتها.

صحيفة اخبار الخليج
2 مايو 2009