المنشور

التاريخ يعلمنا.. !!

التاريخ يعلمنا الكثير.. وابن خلدون قال: «إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الأخبار ولكن في باطنه نظر وتحقيق». ربما من هذه الزاوية أردنا ونحن نواصل الحديث عن حرمة المال العام على خلفية التوجه المعلن أخيراً من سمو ولي العهد رئيس مجلس التنمية الاقتصادية في شأن محاربة الفساد وتطوير تشريعات مواجهته، والتصدي للرشوة وتجريم من يتلاعب بأموال المساهمين، أردنا أن ننزع إلى بعض الوقائع التي حدثت في دول عدة باتت في ذمة التاريخ لعلنا من ذلك نأخذ العبرة وقد قيل «خذوا العبرة من التاريخ»، كما أردنا في نفس الوقت أن نمر مروراَ عابراً على بعض تجارب الدول المتقدمة على ذات الصعيد وما أكثرها، لعلنا من دروس وتجارب الآخرين نستفيد. من التاريخ نبدأ.. ومن انجلترا تحديداً ففيها صدر في عام 1215 ميلادية ما عرف بوثيقة الماجنا كرتا أو العهد الأعظم، وأهميتها تكمن في أنها أعطت الشعب الحق في المشاركة والمراقبة في انفاق المال العام، وحمته من الضرائب المجحفة وساوت الجميع أمام القانون وحظرت الرشوة والفساد الإداري، ويكاد يكون معلوماً أن هذه الوثيقة رغم المسحة الاقطاعية التي غلب عليها اعتبرها البعض الأساس في بداية التوازنات ما بين أقطاب الحكم والحريات والديمقراطية وهي التي دفعت في محصلتها النهائية إلى انحسار الفساد وتضييق الخناق على الفاسدين، وربما ليس من باب الصدفة أن تكون هناك حساسية شديدة في بريطانيا إزاء المال العام، ففي مرحلة أخرى يسجل أن الحكومة البريطانية رفضت في إحدى السنوات دفع تكاليف احتفال الملكة الأم بعيد ميلادها المائة لأنها رأت أن تلك مناسبة عائلية خاصة لا ينبغي أن تتحمل خزانة الدولة أعباءها..!!التاريخ لا يكتفي بذلك، فهو مليء بالدروس والعبر، فهو ينقلنا إلى دولة ديمقراطية أخرى وهي السويد، ويبين لنا أن ملك السويد كارل السادس حينما بلغ سن الخمسين في عام 1996، تعالت أصوات منادية بإقامة احتفال كبير بهذه المناسبة لكونه يحظى بشعبية كبيرة، ولأنه أيضاً أول ملك يبلغ هذا السن وهو على عرش السويد منذ تسعين سنة، وأقيم احتفال حضره نحو 600 من الملوك والرؤساء والأمراء في أوربا والشخصيات العامة، وكان احتفالاً ضخماً عجزت الأسرة المالكة التي تعد من أفقر حكام أوربا عن تدبير نفقات الاحتفال، ولأن الدستور يمنع الملك من قبول تبرعات أو هدايا من أية جهة كانت، فلم يكن بمقدور منظمي الاحتفال إلا الاعتماد على ما أسموه بالاكتتاب العام حينما قررت الجمعيات الأهلية في السويد أن تتولى هي وليس الأسرة المالكة ولا الحكومة إقامة الاحتفال وتلقي التبرعات. وفي فرنسا يسجل التاريخ للرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك قبيل مغادرته الرئاسة في 16 مايو 2007 بعد أن قضى 12 عاماً على سدة الرئاسة، أنه نشر قائمة بممتلكاته في الصحيفة الرسمية، وكانت القائمة تضم عقارات يملكها مع زوجته قيمتها 580 ألف يورو، ويملكان بيتاً في مسقط رأسه قيمته 500 ألف يورو، بالإضافة إلى سيارة بيجو 205 موديل 1984، وإجمالاً فإن كل ممتلكاته قدرت آنذاك بقيمة مليون و400 ألف يورو، وعند إعادة انتخابه أعلن شيراك في 10 مايو 2002 أنه يملك 1,7 مليون يورو. على صعيد التجارب، يمكن التوقف عند عينة من التجارب والدروس التي يمكن أن نقف أمامها مبهورين حقاً رغم أنها تذكرنا بأوجاعنا حينما ننظر إلى أوضاعنا.. ففي يوم من الأيام حاكمت فرنسا رئيس وزرائها لأنه طلب من بلدية باريس صباغة شقته واعتبروا ذلك استغلالاً للنفوذ ومساساً بالمال العام، وفي سنغافورة تم إعفاء أحد الوزراء من منصبه وتم وضع صورته في متحف مكافحة الفساد ليكون عبرة لغيره، فقط لأن سعادة الوزير وهو بالمناسبة الوزير المعني بالسياحة، قبل كوبونات مجانية لقضاء ليلتين في أحد المنتجعات السياحية، الأمر الذي اعتبر رشوة، وفي درس ذي دلالة، الغيت زيارة مقررة للحاكم العام في كندا لأن زيارة سابقة له كلفت حوالي 5 ملايين دولار، واعتبر ذلك رفاهية لا معنى لها وهدراً للمال العام… ويبقى أخيراً وليس آخراً درس من اليابان، حيث احتراماً لقيمة العمل، وتقديساً للوقت، وترسيخاً للمثل العليا ومنها ذات الصلة بقدسية المال العام، امتنع رئيس وزراء اليابان عن حضور مباراة مهمة بين فريق بلاده وفريق آخر، والسبب أن توقيت المباراة يتعارض مع ساعات العمل الرسمية، فإذا أعطى رئيس وزراء اليابان الحق لنفسه خرق الدوام فإنه يخرق بذلك النظام العام ويتيح الفرصة لممارسات تمس المال العام وتكون الابن الشرعي للفساد. يبقى أن نترك لكم سؤالاً جوهرياً لا نملك عليه إجابة.. أين نحن من ذلك كله؟! والسؤال بصيغة أخرى هل يمكن أن نستفيد من تلك الدروس والعبر اذا كنا جادين هذه المرة في مكافحة الفساد؟ ما نتمناه أن نكون جادين حقاً وأن تترجم الأقوال إلى أفعال.
 
صحيفة الايام
24 ابريل 2009