المنشور

من تاريخ قوى المال الغربية

يتحدث العديد من المثقفين العرب عن أزمة الطبقة الوسطى وانهيارها أو صعودها أو غير ذلك في تعميمات ومن دون أي تحليلات اقتصادية وتاريخية، تجعل عقولهم ومناهجهم تتغلغل في البنى الاقتصادية وتفهم ما يجري.
هذا بخلاف علماء الاقتصاد والتاريخ الغربيين الذين كرسوا الكثير من المؤلفات لفحص ذلك، بدءًا من آدم سميث وريكاردو حتى ماركس.
ويقدم لنا كارل ماركس وصديقه فريدريك أنجلز لوحات تاريخية ومعركة ثقافية ساخرة وعلمية عميقة عن كيفية نشوء الطبقة الوسطى وقوى المال عموماً في الغرب، وذلك في كتابهما المشترك: (الإيديولوجية الألمانية: دار دمشق ومن ترجمة فؤاد أيوب).

ويقدم المؤلفان ذلك بصفته تاريخاً للإنسانية الحديثة، ويعتبران ما تشكل ويتشكل في الغرب كأنه تاريخ للشرق كذلك، لكن ما يقصدانه هو تكون الرأسمالية في الغرب، في حين ستكون للشرق رأسماليته المغايرة وذات التاريخ المختلف، ولكن الرؤى الغربية حتى من وجهة اليسار في ذلك الحين تدور في المركزية الأوروبية التي سوف تقود للاشتراكية. ويفيدنا ذلك في رؤية النمطين من الرأسمالية: الرأسمالية الغربية الخاصة والرأسمالية الحكومية الشرقية. وكل منهما له سياقه العام المتميز.

يتوجه ماركس في دراستهِ المذهلة عن تاريخ أوروبا الاقتصادي إلى كيفية ظهور الإقطاع في العصر الوسيط وكيف برزت المدنُ بعد انهيارِ الإمبراطورية الرومانية، وهو يمشي على تضاريس الحرف والنقابات الحرفية وكيفية تشكل الرساميل عبر مختلف البلدان، أي إلى الأجسام الاقتصادية لأرباب العمل المختلفين من إيطاليا حتى انجلترا مركز الثورة الصناعية، ويميز بين شرائح كبيرة من هذه القوى: (إن البرجوازية لا تنمو إلا بصورة تدرجية في ذات الوقت مع شروطها الخاصة، وتنشق وفقاً لتقسيم العمل إلى فئات متعددة، وتمتصُ جميعَ الطبقات المالكة التي تصادفها)، (بالقدر الذي تتحول وفقاً له كل الملكية القائمة إلى رأسمال صناعي أو تجاري)، ص .65

وماركس حين يعرضُ منتجات الواقع هذه يتتبعُ جذورَها في التاريخ السابق مثل الحرف، والإقطاع، والنقد الذهبي، والاكتشافات الجغرافية والثقافة، ويمثل ذلك حدوث الشكل الأول الابتدائي من العولمة الحديثة، لكي يصلَ إلى مكوناتِ التاريخ الاقتصادي الاجتماعية، فمع نمو الرساميل بشكليها الصناعي والتجاري ظهرتْ المصانعُ الأولى، (وكانت العاقبة الأولى لتقسيم العمل بين المدن المخلتفة قيام المانيفاكتورات، هذه الفروع للإنتاج التي أفلتت من نظام النقابات الحرفية)، ص66، (واقتصرت على السوق الداخلية)، (وأصبحت المانيفاكتورة ملجأً للفلاحين من النقابات الحرفية التي كانت تستعبدهم أو تدفع لهم أجوراً سيئة). (ومع قيام المانيفاكتورات وُضعت الأممُ المختلفة في علاقات مزاحمة، وانخرطتْ في صراعٍ تجاري، هذا الصراع الذي احتدم بواسطةِ حروبٍ، وحمايةٍ جمركية ، وحظرِ استيراد).

(وتلقت المانيفاكتورة وحركة الإنتاج بصورةٍ عامة انتفاضة هائلة من جراء امتداد التجارة الذي تحقق مع اكتشاف أمريكا والطريق البحرية إلى جزر الهند الشرقية. إن المنتجات الجديدة المستوردة من هناك، وبصورة خاصة كتل الذهب والفضة التي دخلتْ التداول، قد بدلت تبديلاً كاملاً مركز الطبقات حيال بعضها بعضاً، ووجهتْ صفعة شديدة إلى المُلكية العقارية الإقطاعية وإلى الشغيلة.)، والمقصود بالشغيلة هنا الحرفيون خاصة، ص.68

إن قوى الإنتاج الجديدة التي غذتها تطورات العلوم وانتشار المجموعات الكثيفة من المشردين في المدن، والاتساع الهائل للتجارة أدت كلها إلى أن ( التجارة والمانيفاكتورة قد خلقت البرجوازية الكبيرة، أما في النقابات الحرفية فقد تمركزت البورجوازية الصغيرة التي لم تعدْ سائدة في المدن بعد الآن، بل لم يكن لها بد من الانحناء امام سلطان التجار والمانيفاكتوريين الكبار)، ويحدد ماركس تكوينات القوى الغنية المتعددة بالشكل التالي في الهامش:(البورجوازية الصغيرة – الطبقة المتوسطة – البورجوازية الكبيرة).

أما المرحلة الثانية للتحول فقد بدأت في منتصف القرن السابع عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر، التي تتميز باستمرارِ اتساعِ التجارة، وبتطورِ الصناعات المتخصصة كالحرير، وبرفع الحظر عن تصدير الذهب والفضة وبدء النقد الورقي، والمضاربة بالرساميل والأسهم من مختلف الأصناف)، وقد توسع الطلب التجاري بحيث ان قوى الإنتاج المحدودة عجزت عن تلبيته، (وقد عممتْ الصناعة الكبرى المزاحمة وأنشأتْ وسائلَ المواصلات الحديثة وأخضعت التجارة لها، وحولتْ الرأسمالَ بأسرهِ إلى رأسمالٍ صناعي، وانبثقت المدنُ الصناعية العملاقة الحديثة)، (ولقد دمرتْ حيثما تغلغلت الحرفَ اليدوية)، (لقد أكملتْ انتصارَ المدينة التجارية على الريف).

لقد لعبت الملكية الخاصة وقوة العمل المأجور دوريهما في صياغة هذا العالم الاقتصادي، ولم تكن هنا شبكة سياسية تمنع مثل هذا النمو المتداخل الذي بدا فوضوياً، ولكن تضافر الملكية الخاصة والعلوم والمنافسة الاقتصادية أدت إلى تثوير قوى الإنتاج، وعبر ثلاثة قرون من هذه الديناميكية تكون قوى الإنتاج قد تفوقتْ عن كل ما جرى في التاريخ سابقاً.

أما في الشرق فسوف تتعرض الحركة الاقتصادية لتدخل الرساميل الغربية، ثم إلى قيام منظومات سياسية شرقية تقيدُ نموَ الاقتصاد بشكلٍ حكومي، وينجحُ بعضها في احداث قفزة بفضل أداة الدولة المركزية المُخططة، لكن لا تبلغ درجة تطور الغرب، ثم تتشابك المنظومتان الرأسمالية الغربية الخاصة والرأسمالية الشرقية الحكومية، في صراع عالمي، ثم في توليفة مشتركة راهنة تظل صراعية مفتوحة لاحتمالاتٍ جديدة لا تتوقف.