المنشور

الواقع والأوهام


يعتقد الدينيون أنهم يعملون من أجل قيم الإسلام، بشكل مجرد، رغم انه عندما تأتي هذه المفاهيم على الأرض الاجتماعية نجدها مذاهب، وحينما ننزل أكثر على الأرض الاقتصادية نجدها أفكاراً سياسية، ثم حين ننزل أكثر نجدها مصالح شخصية.
ضخامة الرأسماليتين الحكوميتين في كل من السعودية وإيران، ونشوؤهما في وسطين: بدوي وقروي، وتأخر هاتين النشأتين عن البلدان الأخرى، جعل من الأفكار الطالعة من أوساط البرجوازية الصغيرة في كل من هاتين الدولتين متخلفة عن مستويات الحركات الدينية في الدول الأخرى، لكن بفضل الضخ المالي من كلا الرأسماليتين الحكوميتين السابقتي الذكر أمكن لهذه الحركات الدينية أن تفرض سطوتها على باقي الحركات السياسية، وتجعل نموذجيهما المتأخرين في النمو، مثالاً يُفرضُ بُقوة المال، وأحياناً بقوة السلاح. 

استيلاء القوى المتحكمة من البدو والقرويين على الثروة النفطية بدرجة أساسية مكنها من نشر هاتين الأيديولوجيتين السياسيتين في المنطقة، والارتفاع فوق الرؤى المذهبية الأخرى التي كانت في حالات مقاربة أكبر مع الحداثة.وهذه الأدلجة ليست سوى أحكام فقهية شديدة النصوصية، تمتنعُ كثيراً عن الاجتهاد، وترتبط كثيراً بالجوانب العبادية وكأن الدينَ هو هي، وهي أدلجة تمثل جزءًا من الحصر الطويل الذي مر بهما، كلٌ بطريقتهِ وفي ظروفه.

ففي التجربة الإيرانية كان الحصرُ سياسياً طويلاً سببته الصراعاتُ المذهبية، وكون (الإثناعشرية) نتاجُ صراعٍ مع المذاهب الامامية الأخرى على مدى عشرة قرون، ومع المركز المسيطر عادة في بغداد، فانغلقتْ على ذاتها بسبب آني هو أن المنتجين لهذه النسخة التأويلية من الإثناعشرية كانوا من تلك المناطق الريفية المُحاصرة، فجعلوا من النسخة طبعة أبدية.

ومن هنا فليس ثمة إبداع فقهي تحرري ولا يحدث الإبداع إلا في الشق السياسي عبر تركيب بعض الشعارات السياسية الفوقية، ولهذا كانت الهواجس دائماً تأتي من صوب المذاهب الأخرى، خاصة السنية منها، ثم من الحداثة وتغلغلاتها، ثم من الغرب الديمقراطي، ثم من النفوذ الأمريكي، ولتجعل هذه الهواجس صراعاً يومياً يعيشه المواطن لديها وكأنه في حالة حرب، فإذا لم تكن أوجدها، ثم تصبح القنبلة النووية هي أمل المذهبي السياسي الحاكم هذا في عدم الذوبان في عالم الحداثة أو الديمقراطية أو ترك السلطة المتشبث بها.

ولا تختلف النزعات الوهابية عن ذلك فقد جعلتها البوادي والصحارى تخافُ من الغريب، ومن حدوث التغيير، وتركز في اللفظية ورفض (البدعة) فجعلت من الحروب أساساً لعيشها، ومن النصوصية الشديدة التجمد أساساً للإيمان، ولم تـجر تحولاتٌ كبيرة على مدى عقود في هذه الأدلجة المُسيسة للدين في ظل ظروف الانحصار الصحراوي، حتى إذا جاءتْ ثروة النفط الكبيرة على مستوياتها الإدارية حاولتْ نشرَها وتعميمَها على المسلمين. ثم كان لذلك أثره في الداخل السعودي، حيث تمايزتْ بعضُ الأقسام الاجتماعية، وتحدثتْ، وخرجتْ من عباءة الرعبِ المذهبية المؤدلجة، لكن لم يحدث تحديث فقهي ولا سياسي أو فكري، وبقي قسمٌ كبيرٌ من الجمهور في ظل ما أُنتج سابقاً ولم يُصارع ولم يغير، فورثتهُ قوى الارهاب وحولتهُ إلى عقيدة وحروب.

لهذا نجد بعض التلامس لدى المؤدلجين المتشددين فيما يُسمى حركات الارهاب، خوفا مشتركا من الديمقراطية والحداثة، وعمليات مشتركة لزعزعة التحولات وضد توجهات المسلمين نحو النهضة.

الصفيحتان القاريتان المتحاككتان هاتان تتلاقيان على الحدود في خط يبدأ من باكستان حتى ينتهي في العراق، في المناطق الريفية والبدوية، بين القوميات الكبيرة المتصارعة طوال التاريخ الديني، ويشتد أوارهما في المناطق السكنية المشتركة وفي البلدان ذات الازدواجيات المذهبية.
لم تعط للمدن وللحداثة أي فرصة كبيرة في معالجة هذه الأدلجة المتقوقعة، ثم جاءتْ عملياتُ عولمة الرأسماليتين الغربية والشرقية في رأسمالية مشتركة لم تتبلور حتى الآن، وأثارت الزوابع الاقتصادية والثقافية.

فتقوم البرجوازيات الصغيرة في كلتا الأدلجتين المذهبيتين في النشر والصراع الحرفيين والتقوقع في مراكزهما المنقولة من الخارج، وفي حين انهما كلتيهما تسعيان للتخفيف من الرأسمالية الحكومية، وتسعيان للتحول لفئات برجوازية كبيرة، لكنهما تخفيان نفسيهما في تلك العباءات المؤدلجة المنسوجة في ماكينات دول أخرى ذات ظروف مختلفة، بسبب أنهما تخافان ابتعاد الجمهور الفقير عنهما الذي يعطيانهما الأصوات والكراسي والنفوذ، وبالتالي مال الرأسمال الكبير المنتظر، ولهذا تتمسكان بشدة بالأدلجة المذهبية المحافظة من مصدريها.
ولكن هذا من جهة يؤدي لصراع قومي عربي – فارسي، وصراع بين التحديث الديمقراطي الوطني المستقل وبين التبعية للمراكز الاستبدادية الخارجية وخططها الصراعية في المنطقة.

وبهذه الصراعات تفقد عملية النمو الرأسمالية التي تكمنُ في باطن هاتين الحركتين التحامها ونضالها المشترك وتطوريها الفقهيين الديمقراطيين، وبدلاً من أن تبدلا حال الرأسمالية الحكومية تجمدان تطورها ونقدها وتحويلها.
ولهذا بدلاً من أن تزيلا العوائق من أمام النمو تضعان العراقيل أمامه، وتدخلان في صراعات جانبية ضد الحداثة في الثقافة والسياحة والاقتصاد.
إن صعوبة خروجهما من صحراوية الانحصار والأرياف المتجمدة تتحملُ فواتيرَهُ قوى الحركة الاجتماعية من تجار وعمال، الأولى تعاني حصار الرساميل والثانية تبخر الأجور! 



  أخبار الخليج 21 ابريل 2009