المنشور

بين أخطاء المقاومة الفلسطينية وأخطاء المقاومة اللبنانية (1-2)


على الرغم من التجربة المريرة القاسية التي واجهتها فصائل المقاومة الوطنية الفلسطينية المسلحة في الأردن إبان كفاحها المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي، انطلاقا من أراضي المملكة الأردنية الهاشمية، وما أفضت إليه هذه التجربة من صدام سياسي ومسلح عنيف بلغ ذروته في خريف عام 1970 فيما عُرف بـ “مذابح أيلول الأسود” التي انتهت بطرد كل هذه الفصائل من الأردن وبخاصة على إثر رفعها شعار تحويل عمان إلى بؤرة ثورية كهانوي الفيتنامية، فإن تلك الفصائل كافة لم تستفد من تلك التجربة النضالية المسلحة الغنية بالدروس والعبر إذ سرعان ما انتقلت بكامل ثقلها وعدتها وعتادها إلى أراضي الجمهورية اللبنانية واتخذت منها مركزا سياسيا وعسكريا رئيسيا لأعمالها الكفاحية العسكرية ضد إسرائيل انطلاقا من الجنوب، فأدى تعاظم نفوذ منظمة التحرير السياسي والعسكري في لبنان ليس فقط إلى طغيان هذا النفوذ على سلطة الدولة حتى عرف مركزها في الفاكهاني بـ “جمهورية الفاكهاني”، 

بل إلى اندلاع حرب أهلية طويلة ضروس (1975-1990) مزقت الشعب والوطن شر تمزيق وأكلت الأخضر واليابس بكل معنى الكلمة وذلك لتورط أحد الأطراف الرئيسية في تلك الحرب (اليسار اللبناني وغالبية ممثلي الطوائف الإسلامية) في الدخول في تحالف مصيري مع فصائل المقاومة الفلسطينية الوافدة إلى الأراضي اللبنانية ضد طرف آخر لبناني (اليمين اللبناني وغالبية ممثلي الطوائف المسيحية وعلى الأخص المارونية) وبذلك ذهنيات وعقليات قيادات تلك الفصائل الفلسطينية الوطنية المسلحة ما يقرب من 20 عاما (1965-1982) تستوعب الأخطاء النضالية الانتحارية القاتلة المدمرة التي انزلقت إليها في الأردن ثم في لبنان ودفع مناضلوها المسلحون وشعبهم وشعوب البلدان العربية الشقيقة التي استضافتهم فواتير باهظة جدا من أجل أن يستوعبوا خطأ الاعتماد على وسيلة نضالية واحدة وحيدة هي “الكفاح المسلح”، فما بالك إذا ما كانت هذه الوسيلة غير متاح ممارستها على أراضي وطنهم لمواجهة العدو الذي يحتلها وجها لوجه لأسباب عديدة موضوعية وذاتية ليس هنا موضع تناولها؟ ومن ثم تفرض الحاجة نفسها إلى استشراف أشكال نضالية خاصة تتوافق مع الخصائص والظروف السياسية والتاريخية والجيوبوليتكية الخاصة المميزة للشعب الفلسطيني، وهذا ما لم تنجح القيادات السياسية للشعب الفلسطيني فيه حتى الآن للأسف.

ولعل من المفارقات التراجيدية الساخرة أنه إذا كان الخطأ القاتل الذي وقعت فيه فصائل المقاومة الوطنية الفلسطينية يتمثل في إصرارها على ممارسة “الكفاح المسلح” ضد الاحتلال الإسرائيلي انطلاقا من أراضي دول عربية شقيقة صاحبة السيادة المطلقة على أراضيها، أيا يكن الاتفاق أو الاختلاف مع مواقفها أو سياساتها المستندة إلى تلك السيادة، فإن الخطأ النضالي القاتل الذي وقع فيه ومازال يقع فيه الفصيل الفلسطيني الإسلامي المسلح الذي برز عام 1987 إنما يتمثل ليس في إصراره على اعتماد الوسيلة الكفاحية المسلحة ضد الاحتلال من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى وجه الخصوص الضفة والقطاع فحسب، بل انفراده بتبني وسيلة نضالية محددة هي العمليات المعروفة بـ “الاستشهادية” ضد أهداف إسرائيلية محددة داخل الخط الأخضر غالبا ما تكون “مدنية” ويروح ضحيتها إلى جانب الإسرائيليين مدنيون من عرب 48 أحيانا، عدا تشويه سمعة نضال الشعب الفلسطيني في الخارج، ومن هذه الأهداف محطات وباصات النقل العام أو الشوارع والمحلات التجارية والأسواق العامة وخلافها، ثم أضيف إلى ذلك إطلاق الصواريخ على الجانب الإسرائيلي انطلاقا من أراضي 1967 وعلى الأخص من قطاع غزة.

فكم تحتاج حركة “حماس” رغم مضي أكثر من 20 عاما ونيفا على انطلاقتها لتستوعب عبثية هذا النهج النضالي الجديد المدمر على شعبها وما يترتب عليه الإصرار على مواصلته من كوارث وأهوال مأساوية تعود بالوبال على مستقبل قضيتهم الفلسطينية وعلى مصالح شعبهم الوطنية؟ ولعل العدوان الإسرائيلي الوحشي الانتقامي الأخير على قطاع غزة لخير شاهد ودليل على ذلك.

وهكذا فإن الشعب الفلسطيني، ورغم هذه التجربة النضالية الطويلة القاسية المريرة التي يختزنها منذ أكثر من أربعة عقود والتي لم تستفد قياداته السياسية منها، هو واقع اليوم بين سندان قيادة سياسية فاسدة عاجزة أضحت تراهن بالكامل على الخيار التسووي بأي ثمن كان ولا شيء آخر سواه حتى إن كان لا يلوح في الأفق أي بصيص في نهايته، وخيار آخر مقاوم لكنه عدمي ومكلف للغاية ولا شيء آخر سواه، ومثلما وقعت فيها فصائل المقاومة الفلسطينية (الوطنية منها والإسلامية) في تلك الأخطاء السياسية والكفاحية الانتحارية القاتلة المدمرة التي وقعت فيها الفصائل الوطنية والإسلامية على السواء فمن المفارقات التاريخية أن قوى وأحزاب المقاومة اللبنانية (الوطنية منها والإسلامية) وقعت ومازالت تقع في أخطاء قاتلة سياسية وكفاحية مشابهة.

فها هو حزب الله وبعد انحسار دور أحزاب المقاومة الوطنية اللبنانية يرتكب ذات الأخطاء السياسية والقتالية التي وقعت فيها تلك الأحزاب، ولعل آخر أخطائه في هذا الصدد اعتراف قيادته الفاضح والمؤسف بإرسال بعض المقاتلين من رجاله إلى أراضي جمهورية مصر العربية لتقديم دعم للمقاومة الإسلامية في غزة انطلاقا من الأراضي المصرية.

أخبار الخليج 21 ابريل 2009