المنشور

تسابق الجنرالات والديمقراطية


نعود إلى عالمنا النامي الذي ظل يحمل من التناقضات الاجتماعية والسياسية المتباينة، كل مجتمع على حدة، ولكن احد مؤشراته البارزة ظل يسطع في فضاء الحياة السياسية، برغم الانهيارات الكثيرة في جبل الجليد، غير إن مؤسساته القوية بقبضاتها الحديدية كمنت في وعي الجماهير، إما لتاريخها الوطني ضد الاستعمار أو لمفرداتها الدائمة عند كل انقلاب يخرج فيه الجنرال نحو محطة الإذاعة ويعلن أن الانقلاب جاء للقضاء على الفساد والكذب وغيرها من الجمل ثم ينتهي بجملة ومصطلح صار مسماراً في جدار الحياة السياسية: «نحن مع حركة التغيير والإصلاح، فيتم التصفيق والعيش مع انتظار ذلك الأمل الذي يأتي به كل جنرال في مجتمع مصاب بحالة الإحباط والخيبة».

لقد كنا نتأمل في الأسابيع الماضية تلك الخارطة السياسية العالمية التي تشتعل بصناديق الاقتراع وبتلك الملصقات والدعاية الانتخابية، فيما راحت جماهير أخرى كموريتانيا تنادي بعودة الرئيس والديمقراطية. هكذا بدأ جنرالات الماضي يظهرون على خشبة المسرح وهم أقوياء أكثر مما مضى. كانت خارطة الانتخابات الاندونيسية تعيد لذاكرة جيلنا ذلك التماسك العميق لحلفاء مؤتمر باندونغ واندلاع عالم مناهض للاستعمار وانقلابات عسكرية وطنية حقيقية. هذه المرة مثل كل المرات تنبت التربة الاندونيسية في حملة الانتخابات والمسار الديمقراطي، عالم واسع من الجنرالات وليس جنرالا واحدا، هذا الفطر النابت في الأرخبيل يؤكد لنا بأنه مازال للبدلة العسكرية والهيبة الأمنية حضورها، فكانت المؤشرات الدولية الحاضرة والمعنية بالمراقبة تميل أغلبها إلى إمكانية نجاح سوسيلو بامبانج المنافس للرئيسة مييجاواتي، فيما كان الجنرال السابق الآخر «برانتو» يسبح في مياه متقلبة لا يمكنها النجاح والانتصار على جنرال قبضته كانت حديدية في جهاز الأمن واستطاع خلال تلك الحقبة ان يؤسس له بنية داخلية في الجهاز وعلاقات متشعبة في محيط الجزر المتناثرة.

كانت تلك المؤشرات قبل إعلان النتائج تبرز لنا ظاهرة جديدة للديمقراطية الوليدة في مجتمعات ظلت لأكثر من ثلاثين وأربعين عاما مجتمعات تعيش في الظلام ولا تسمع إلا اصواتا احتجاجية بين الحين والآخر تنتهي بحمامات الدم، وكان على تلك الأصوات أن تخبو أو تملأ السجون، ولكن الكتابات الجدارية تظل تبث إشاراتها للناس بضرورة التمرد والتغيير. في ظل تلك الحقيقة وواقعها، كان يترعرع في كنف الأنظمة القمعية العنف والفساد والبطالة أيضا فقد صنعها والآن ينادي بالقضاء عليها! والتي كثيرا ما ستكون سببا للانفجار العفوي وخروج الناس بالمئات للشوارع، وسيكون على العسكر ببدلاتهم الانفجار كذلك تلبية لنداء الناس ومحنة الوطن مع الأنظمة متناسين قوانين الطاعة والانضباط، خاصة وان الجنرالات الكبار في الجيش ما عاد اغلبهم يمثلون نموذجا للمثالية الوطنية والأخلاقية، فكل الصور والقصص المتداولة في الحياة السياسية تعلن عن استشراء الفساد في قمة المجتمع بل واقعه البائس.

كان على الخارطة السياسية التي نقرأها كل يوم في مجتمع مدني هش وجماهير متمردة على شكل فقاعات هنا وهناك. في البلدان النامية، كانت الديمقراطية ’’فتاتنا الجميلة’’ يسعى الجميع لخطب ودها لكونها صارت الموضة السائدة، بل وضرورة لا بد من بنائها لنشوء عالم جديد من اجل التغيير والإصلاح! ولكن عن أي تغيير وعن أي إصلاح من الممكن تحقيقه، هذا ما ينبغي أن يشعر به الناس أولا قبل الإعلان عنه في الانتخابات ولحظة التصويت والوقوف عند صناديق الاقتراع بملابس مدنية مزركشة وابتسامة ودودة لعدسات التصوير .

هكذا كان المسرح السياسي في اندونيسيا وموريتانيا، حيث الصراع يظل ساخنا ويبقى لقوة وحضور الجنرالات المعلن أو الخفي حضورا متمكنا، فلديه من سطوة المال والحديد ما يجعله قادرا على النجاح. ربما ليست التجربة التاريخية لكل من نماذجنا واحدة، وليس لكل هذه المسارات متقلبات واحدة وتأثير في محيطه الإقليمي بالقدر نفسه، ولكن ما يجمعهما اليوم تلك الظاهرة الواحدة هو التشبث بقبضة السلطة، وبشعارات متماثلة لا يمكن أن تغيب عنها الملصقات.