المنشور

إدارة الصراع بين شموليتين


تبقي المقاربات باتجاه الديمقراطية في البلدان العربية إدارة صراع بين شموليتين، فالإدارات الحكومية لا تسعى للتنازل الكلي أمام المعارضين وجعل الانتخابات حرة، وإن كل المناصب في متناول المرشحين، في حين يستند المعارضون إلى أفكار متخلفة ومناهج مفتتة لكيانِ الدول.
هي أزمة تكوين اجتماعي تقليدي دُفع فجأة باتجاهِ المقاربة مع الديمقراطية الغربية.

البيروقراطياتُ الحكومية المتكرسة خلال نصف قرن صارت لها وشائجها القوية في كل فروع الاقتصاد، شركات ووزارات، وخلف ذلك عائلات وقبائل ومناطق، وقوى منظمة عسكرياً، وتناسقتْ كل هذه التكوينات الاقتصادية والسياسية والأهلية في أشكالٍ عبادية أو مذهبية أو في تكويناتِ الحزبِ الواحد القديم الباقي دائماً.
أنها رغم كل تقليديتها تمثل شكلاً من المقاربة مع الرأسمالية الحديثة الغربية، وهي لها صلاتٌ اقتصادية وسياسية وعسكرية بها، وبهذا فهي تؤيدُ شيئاً من الانفتاح والحداثة، بما يتضمن ذلك تغييراً للثقافة والتعليم والحياة العائلية وانتشار المؤسسات المنتخبة بهذه الدرجة أو تلك من المحدودية. 
 
وأخطر الأشياء ارتباط هذه الإدارات بالمؤسسات العسكرية الغربية، التي غدت مهيمنة على أغلبية الأرض، في معاهدات وقواعد وحلف منتشر ومطاوعة مؤسسات الأمم المتحدة لها، وصار ذلك كله بمشاركة وتعاون القوى الكبرى في الشرق.

فمثل هذا التكوين العالمي المتناسق بعض الشيء المختلف في جوانب، لم يعد بالإمكان إسقاطه، والادعاء بمناطحته، ومثل هذا الكلام يؤدي إلى الانتحار على الطريقة القاعدية أو الكورية الشمالية.

بطبيعة الحال لم تصل القيادات العربية إلى أن تكون عاملاً مغيراً للأحوال لمزيد من الديمقراطية والتحديث، فهذه تتطلبُ أموالاً هائلة، لا تكرسها وتكوّنها وتراكمها وتستجلبها، لأنها تستنزفُ الأموالَ لجهات أخرى بذخية أو هروبية.

وفي المقابل فإن الشمولية الدينية تغدو فزاعة، أو قوى تملك جمهوراً محافظاً لكنها لا تملك برامج تحديثية بل تخوف القوى الليبرالية والتقدمية، فلا تحاول أن تفهم العصر وتطور من جمهورها المحافظ الذي تعتقد انه رأسمالها السياسي الذي تتحرك به في عالم مغاير لها.

بين هذا وذاك تنزف المجتمعات العربية وتضيع سنوات من عمرها على فتح وإغلاق السجون، وعلى محاكمات الارهاب والخلايا النشطة والنائمة، وعلى اجتماعات الأحزاب الدينية وانشقاقاتها وبحثها عن أي حليف وأسلحة وتفجيرها للصراعات العتيقة واستدعاء مفردات الصراعات الدينية والصليبية.

أي أن ثمة تكوينات اجتماعية ريفية وبدوية وفي ضواحي المدن الكبيرة الفقيرة تريد مدارس وأعمالا واستقلالاً سياسياً للحكومات العربية، واحتراماً للموروث، وترقية للأحوال، ولكن الإدارات لا تنفذ ذلك بسهولة وسرعة، وقد لا تنفذه على الإطلاق، ويظل المحرومون أدوات للتلاعب السياسي للزعماء وللدول الخارجية.

إنها خريطة عربية واحدة، بل نجدها في كل دول ما يُسمى العالم الثالث، في نموها واصطدامها بسرعة التطور في العالم، وعجز هياكلها الاقتصادية – الاجتماعية عن اللحاق بذلك.

تحتاج الحياة العربية إلى مسئولين وإلى وحكام مستقلين عن الجانبين، عن جانب تقليدية الإدارات وجمودها وعن الجماعات الدينية ومغامراتها، من أجل تنفيذ تغييرات اقتصادية واجتماعية وثقافية خاصة في المناطق الشعبية وفي حياة الجمهور الاقتصادية الرثة، لنقل هذا الجمهور بآبائه وشبابه من الاستغلال السياسي التكتيكي الملتهب.
لكن هل يمكن وجود رؤساء وحكام مستقلين عن طبقاتهم الحاكمة وأسرهم وجماعاتهم المتحكمة في الإدارات لتلك المدة الطويلة؟
إنه أمرٌ لابد منه.

فمهما كانت الحياة الماضية فإن تلك الجماعات القديمة الحكومية لا تستطيع أن تعيش بنفس الطرق، وأن تبقى في نفس مستويات الرفاهية القديمة وحياة العزلة والامتيازات ولابد للامتيازات أن تتساقط واحدة بعد أخرى.

ذلك أن شيئاً أفضل من لا شيء، وبدلاً من تراكم عوامل الشحن والصراعات المؤدية إلى كوارث أن تتم المحافظة على الموارد.
هذا يعتمد على شخصية الرئيس ومدى ديناميكيته فحين يجري انتخابات ويفوز بها ذلك أفضل من نجاحه الآلي السياسي، ولكن العبرة في تغييره الطواقم الراكدة وطرق تفكيرها الجامدة، وجلب طاقات مختلفة، تبحث عن موارد جديدة وتتوجه للعلاقات الحقيقية مع الجمهور الفقير، أساس المشكلة وحلها.
ونلاحظ أن الرؤساء لا يقرأون، ولا يتمتعون بثقافة ونشأوا في بيئة حزبية أو عائلية محدودة الفكر، في حين جاء رؤوساء التغيير من بعد حروب أو ثورات ونشأوا بشكل عصامي والقليل من هؤلاء كان صاحب مشروع ديمقراطي نهضوي كذلك.

عموماً يظل الأمل الفوقي الذاتي ضئيلاً، وسوف تستمر الصفيحتان الأرضيتان، الإدارة القديمة والدينيين، في حراك تحتي صدامي وصراعات يتولد منها الكثيرُ من الشرر وتخرج من بين شقوقها براكين الأرض وشياطينها، من دون أن تتحول إلى ثروة ذهبية أو حتى حديدية، بل تقصم ظهر الثروة آجلاً أم عاجلاً.
العبرة كلها في الجمهور المتخلف الفقير وطرق تحويل حياته وعدم إنزال جبل من الفواتير والضرائب والأسعار العالية والاستغلالات الشديدة فوق رؤوسه.

19 ابريل 2009