المنشور

من يحنون إلى أمن الدولة


هناك وجوه وأشخاص يمتهنون فكرة الحنين إلى مرحلة قانون أمن الدولة، لأنه يطيب لهم العيش في المناخ المتوتر، لا في مناخ الحوار والمصالحة. ما من شاردة أو واردة تمر إلا ويذكرونا بالقول التالي: ألم تكن الأمور أهدأ وأكثر استقراراً، وهؤلاء هم أنفسهم الذين يوظفون تصرفاً طائشاً هنا أو قولاً غير مسؤول هناك ليصوروا الماضي الذي اكتوت البلد بنيرانه الحارقة كما لو كان جنة النعيم المفقودة، ولينكروا فضاء الحرية الذي أشاعه المشروع الإصلاحي.

يتناسى هؤلاء أن المشاكل التي تعاني منها البلاد اليوم لم تنشأ بسبب الإصلاح، وإنما لأن مناخ الإصلاح أتاح لهذه المشاكل أن تفصح عن نفسها، وأتاح للمجتمع أن يتحدث عنها بصراحة وحرية، وصار بوسع الصحافة أن تكتب عنها وتتابعها. فإن بدا حجم هذه المشاكل كبيراً ومفزعاً فذلك لأن جدار الصمت قد انهار، وتنفس المجتمع الصعداء وصار بوسع الناس جميعاً، ومن المشارب المختلفة، أن يقولوا ما يشاءون وينتقدوا ما يشاءون ويطالبوا بما يشاءون، ويستخدموا من أجل ذلك الوسائل والطرق المختلفة.

نعم في البلد مشاكل كثيرة ومعقدة، وثمة عقبات عديدة تعترض مسيرة الإصلاح، فلا يسير بسببها بالوتائر المطلوبة، وفي مجالات أخرى يتأثر بهذه العقبات، لكن الإصلاح أسس لوضعٍ في البلاد لم يعد بالوسع معه العودة إلى الوراء.

إن المشاكل التي يثيرها الإصلاح يجب أن تعالج بآليات الإصلاح نفسه، التعثر في انجاز مهام التحولات نحو الديمقراطية يجب أن يعالج بتوسيع الديمقراطية وبفتح الحيز المتاح منها. فالناس مستعدة للتوائم مع ما يتيحه هامش الحريات من بعض المظاهر التي لا يرغب البعض في رؤيتها، وهي ترى في ذلك ضريبة هذا الانتقال المتأخر من حالٍ إلى حال، لكنهم في مطلق الأحوال لا يرغبون في العودة إلى زمن القبضة الحديدية، زمن القمع وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات وسد كل الأبواب والنوافذ بوجه نسيم الحرية.

لذا فإن أولئك الذين يأسرهم الحنين إلى مرحلة أمن الدولة ليسوا سوى فئة محدودة كانت منتفعة بالوضع السابق الذي كان يتيح لها أن تصول وتجول على آلام الناس وجراحاتهم وعذاباتهم، أولئك الذين لم يألفوا أن يقرءوا مقالاً في صحيفة ينتقد أدائهم، ولا مشهد نائب يقف في قاعة البرلمان ليوجه سؤالاً لوزير أو نقداً لمسؤول، ولا اعتادوا أن يروا الناس تخرج إلى الشارع مطالبة بحق من الحقوق دون أن ينقض عليها رجال مكافحة الشغب.

لذا يستكثرون على هذا الشعب نعمة القدر المتاح من الحريات الذي جعل شعبنا يظهر ما لديه من طاقات ومن قدرات وإمكانات خلاقة. وهذا القدر من الحريات، وإن شابته الشوائب وأدى إلى ممارسات لا ضرورة لها ولا جدوى منها في الكثير من الحالات، فالعلة ليست فيه ولا في الديمقراطية ذاتها. إنه المجتمع بعد طول صمت يتكلم بأصوات مختلفة ونداءات مختلفة ومطالبات مختلفة، وتراكم الممارسة سيجعل الجميع يتعلم، ويعهدوا الأسلوب الأكثر تنظيماً للعمل السياسي، أما العودة للوراء فدونها إرادة الإصلاح الحازمة مهما ازداد الحنين إلى الماضي عند البعض.