المنشور

إشكالية الرأسماليات الحكومية الخليجية (2)

إذا كنا قد لاحظنا تجمد الرأسماليات الحكومية الخليجية عن توظيف المواطنين، مما يعكس توقف الدور الأبوي الذي كان يتردد بقوة طوال العقود السابقة، فإن الأعباءَ المالية بدءًا من هذا التجمد سوف تـُوضعُ على كواهل القطاعات الخاصة وهي سوف تضعُها على الجمهور العامل:
“في الخليج، شكل الطلب المحلي ما نسبته 70% من الناتج المحلي الإجمالي في عام .2006 وبالنظر إلى مكونات ذلك الطلب، بلغت حصة الاستهلاك الخاص 45%، أي نحو ضعف حجم الاستهلاك الحكومي. بينما شكل الإنفاق الاستثماري للقطاعات الخاصة والحكومية على حد سواء حصة الـ30% المتبقية من الطلب المحلي، وهذا يدل على مدى أهمية الإنفاق الخاص في تحديد إجمالي النمو الاقتصادي”، (القبس).
لكن حين تنفق المؤسسات الخاصة ذلك كله من أين تستخرجه؟ إنه من عمل القوتين العاملتين الأجنبية والمحلية. وحين تقلصُ الحكوماتُ إنفاقـَها سوف تقلصُ القطاعاتُ الخاصة إنفاقـَها تسريحاً للعمال وتقشفاً وتظاهراً أحياناً بطرد المديرين الأجانب ذوي الرواتب العالية المخيفة، لكن ألم يكن هؤلاء متبحبحين طوال السنوات السابقة يديرون ويقدمون الأرقامَ حسبما تشتهي تلك الإدارات؟
والفوائض الحقيقية الكبيرة نبعتْ من النفط والغاز والمصانع التي رضعت من حليب تلك المؤسسات الواسع غير المراقب. لكن أين ذهبت أغلبية الفوائض؟
لقد قامت السياسات الاقتصادية بشكل عام في دول الخليج على احتكار القطاعات العامة للثروة الأساسية، ثم تشغيل أعداد واسعة من المواطنين في أجهزة الدول، وترك هوامش محدودة للقطاعات الخاصة في جوانب الاقتصاد التابع للاقتصادات الحكومية، ومن ثم جلب أعداد هائلة من العمال الأجانب.
وكل هذه الجوانب تبدو متباعدةً عن بعضها بعضا لكنها مترابطة، فقد أضعفت الدولُ الثرواتِ البشرية والمادية، وقد أشار البنك الدولي إلى إشكالية دول الخليج هذه عبر تضخم أجهزة الدول بالموظفين، من جهة وضعف التعليم عن إنتاج عمال في مستوى حاجات الأسواق من جهةٍ أخرى، كما قامت القوى العاملة الأجنبية بتحويلات هائلة، فصار الخليج سوقاً عابرة، أكثر منه سوقاً متجذرة تغني الغرب والشرق وتجفف الثروة من داخله، مما لم يجعل القطاعات الحكومية تتطور صناعيا وتقنيا، ولم يدع القطاعات الخاصة تتولى الأمور.
ومع تلك التحويلات الهائلة من المليارات تجد القطاعات العامة نفسها بحاجة إلى سيولة.
ومع ضخامة الأعداد العاملة في الحكومات تجد أنها يمكن أن تتقلص لغياب الإنتاجية، فتضخمها يأتي بشكل سياسي وليس اقتصاديا.
لا نعرف لمن هذه التريليونات في الخارج (ثلاثة تريليونات ونصف تريليون) وكيف تتوزع وكيف تنمو وما هو عوائدها على الدول والشعوب، ولكن الذي نعرفه هو هذا التضاد الكبير بين ما أنتج ومازال يُنتج من ثروة وضخامة الحاجة المحلية الماسة الخليجية إلى رؤوس الأموال وإلى توزيعها على الإنتاج والبشر.
أما الإصلاح الاقتصادي الذي تطرحه هذه الدول فهو إصلاح محدود ولا ينفذ لجوهر الأمور، بل هو ترقيعٌ وابتعاد عن الإصلاحات الاقتصادية الجذرية المنتظرة.
وتتباين دول الخليج في العلاقات بين القطاعات الحكومية والقطاعات الخاصة ففيما هناك لم تستفد كثيراً من القطاعات الحكومية، استفادت القطاعات الخاصة في الكويت والإمارات وقطر من القطاعات الحكومية وازدهرت على ضفافها:
“ان النمو في كل من قطر والكويت والامارات العربية المتحدة ارتبط بنمو قوي في القطاع غير النفطي، حيث ان نصيب الفرد في النفط والغاز أعلى بكثير منه في بقية بلدان مجلس التعاون الخليجي، وقد كانت هذه الاقتصادات حريصة على تبني سياسات اقتصادية تهدف الى تنويع مصادر دخلها، وفي هذه الاثناء كانت السعودية تحاول تشجيع القطاعات غير النفطية عبر مختلف الوسائل، غير انها تواصل تحقيق نسبة نمو متواضعة نسبيا، حيث يتفوق القطاع النفطي على غير النفطي بهامش ضئيل”، (النفط نعمة ونقمة معاً، 24 مارس، 2009 إبراهيم سيف، جريدة القبس).
تواجهنا الأسئلة نفسها فلماذا استطاعت هذه الدول أن توسع على القطاعات الخاصة والسكان فيما لم تستطع الدول الأخرى القيام بهذه التطويرات للمعيشة وازدهار القطاعات الخاصة؟
تعود المسألة إلى ظهور قوى اجتماعية داخل القطاعات العامة الرأسمالية وحازت ثروات كبيرة منها بفضل احتكارها المناصب طوال سنوات، وهذا يتبدى في مظاهر كثيرة، مثل الرواتب العالية والدخول غير المنظورة، وتملك الأراضي وبيعها خاصة أراضي الشواطئ وأراضي المدن التجارية، والدخول في الأعمال التجارية وتشكيل الشركات بأسماء تكون غالباً واجهات، والحصول على امتيازات من الأعمال الحكومية المختلفة كمعرفة المخططات وبيع الأراضي، وجلب الفيز الحرة وتوزيع أصحابها في كل مكان، واعطاء الموظفين الأجانب الكبار رواتب عالية وتسكينهم في مساكن وعمارات خاصة تابعة لموظفي الدول، والحصول على دخول نفطية باطنية الخ…
وأما الميزانيات فهي ميزانيات سياسية وليست ميزانيات حسابية دقيقة، فهي تقوم على تنظيف الأرصدة من أي تلوث ظاهري وتقدمها نظيفة خالية إلا من بعض العجوزات المرتبة.
ولهذا فإن النظرة السطحية تشاهد أملاكاً ومدخرات بتلك المبالغ السابقة الذكر من دون أن تكون ناتجة عن استثمار عادي، فلا تكفي مئات السنين لتكوين تلك المليارات والتريليونات.
ومع هذا التباين فإن الدول التي سربت تلك الأموال تطالب القطاعات الخاصة وتطالب المواطنين بتحمل أعباء المرحلة، أو تقوم برفع الرسوم على الخدمات وغيره من الأساليب.
 
صحيفة اخبار الخليج
15 ابريل 2009