المنشور

للتجربة وجوه

لو نزعنا التجارب من الحياة، ما الذي يبقى في هذه الحياة؟! إن الحياة هي التجارب، لأنه ما من تجربة إلا وتترك في نفوسنا أثراً، لا بل آثاراً. والتجارب هي من الاتساع بحيث تشمل حيزاً من المعارف والخبرات والمشاهدات والقراءات والأسفار. وأنت لا تستطيع على وجه التحديد معرفة ما الذي تحدثه هذه التجارب في نفسك من متغيرات، ولكن هذه المتغيرات تحدث مهما كانت درجة وعيك إزاءها، حتى لو كنت قررت سلفاً أن تتعاطى مع تجربة أو تخرج منها وقد اكتسبت أشياء، وفقدت أشياء أخرى. لو إن الواحد منا قام بمراجعة لحياته تشبه تلك المراجعات التي تقدمها المحطات التلفزيونية أو الصحف تحت عنوان «حدث في مثل هذا اليوم». وسأل نفسه: ترى أين كان في مثل هذا اليوم قبل عشر أو عشرين سنة، أو حتى قبل عام؟ ما الأحداث أو المناسبات السعيدة، أو غير السعيدة التي عاشها في مثل هذا اليوم؟ من هم الأشخاص اللطفاء وغير اللطفاء الذين عبروا في حياته، وأي أثر تركوه؟ لو فعل ذلك لخرج بحصيلة من التأملات والأفكار والاستعادات. بالطبع إن حياة الفرد مهما كانت درجة صخبها وثراء تفاصيلها تبقى حياة مفردة محدودة التفاصيل قياساً إلى حياة الجماعة التي هي أكثر من مجرد حاصل جمع التجارب الفردية، لكن ذات الفرد عالم بكامل تعقيده واتساع مداه وتناقض المؤثرات فيه. نحن نقرأ تجاربنا عادة بأشكال وطرق مختلفة. إن تقييماتنا نسبية، لأن الظاهرة نفسها التي كنا ننظر لها قبل عام أو عامين بشكل ما، نعود فنرى فيها بعد تقادم الوقت أوجهاً أخرى كانت غائبة عنا. مرة تساءل أحد الكتاب: كم وجهاً للحقيقة؟ كم وجهاً للتجربة؟ وخلص إلى أن الحقيقة كقيمة مطلقة هي واحدة. لكن نحن لا نرى الحقيقة كاملة أو نلامسها مرة واحدة من جميع جوانبها. إننا نرى في كل مرة وجهاً واحداً من وجوهها. وبالطبع فإننا في كل مرة تبعاً لمزاجنا النفسي وحالتنا المعنوية أو العصبية نميل إلى المغالاة في تقدير حجم هذا الوجه بحيث يطمس أو يقلل من أهمية الوجوه الأخرى. الناس يفترضون أنه كلما تعمقت تجاربهم وازدادت غنى أصبحوا أقرب إلى النضج، أقرب إلى الحقيقة، ولكن مثل هذا الفهم ينطوي بدوره على شيء من الاستكانة لمعطى نهائي. حين يقدم النضج بديلاً للاندفاع أو الحماس أو المغامرة أو شهوة الكشف والتجريب. لعل النضج فضيلة، ولكن في الاندفاع فضيلة الشك. والشك طريق النضج الذي إن شعرنا ببلوغه كففنا عن أن نكون باحثين عن الحقيقة، كففنا عن أن نكون راغبين في ولوج تجارب جديدة.
 
صحيفة الايام
15 ابريل 2009