المنشور

إشكالية الرأسماليات الحكومية الخليجية (1)

تعتبر ملكيات الدول الخليجية مصادر الثروات من القضايا الشديدة الغموض، فهي غير مدروسة، ولا توجد مصادر لكشف تجلياتها، ولهذا فإن البحث فيها أشبه بمتاهة، ولكن لا يمنع ذلك من بعض المناوشات التحليلية، بغرض الوصول لأبعادها مستقبلاً، فهي بحاجة إلى أجيال من المحللين لكشف ثروات هائلة لبلدان ومع ذلك تشكو الآن من العجز. تعطينا المظاهر الخارجية للتناقضات الاقتصادية والتباينات والمشاركات بين القطاعات العامة والخاصة في الخليج فكرة أولية عن مسارين مختلفين إشكاليين يبدوان بشكل غامض، فهنا يجري حديث عن أزمة اقتصادية تعانيها خاصة القطاعات العامة، وتطلب مساعدات وتعاون القطاعات الخاصة، ويظل ذلك محصوراً في الشأن الاقتصادي من دون تبلوره في الشأن السياسي. وهذا يشير إلى مشكلات عميقة في البنى الاقتصادية، رغم أسطورية المداخيل التي حازت عليها القطاعات العامة، التي واجهت تصاعد الدين العام، وتفاقم البطالة الأهلية ثم اختلالات النمو الاقتصادي بين الأقاليم والمناطق! فراحت تطلب المعونة من القطاعات الخاصة أو تشركها في مساعدتها عبر آلية القرارات السياسية والاقتصادية. فرغم سيطرة القطاعات العامة على الاقتصاد خلال العقود السابقة، فإنها توقفت عن التطور، بل يحدث فيها جمودٌ كبير، وسنلاحظ ذلك على صعيد التوظيفات، أي توظيف المواطنين في الأجهزة الحكومية. (تظهر البيانات الأخيرة المتاحة أن عدد العاملين في الخليج وصل إلى 14 مليون فرد بحلول نهاية 2007، شكلت العمالة الوطنية 18% منهم. وبلغ عدد العاملين في القطاع العام 13% من إجمالي عدد العاملين، 80% منهم عمالة وطنية. وبينما يقدر معدل البطالة بين العمالة الوطنية بنحو 3،.6 ووفقا لتقديراتنا الأولية لعام 2008، فقد تكون مؤشرات سوق العمل في الخليج قد أظهرت المزيد من التحسن مع انخفاض معدل البطالة إلى 2،3%. إلا أن تدهور البيئة الاقتصادية للمنطقة في الوقت الحالي مقارنة مع السنوات السابقة، يتوقع أن يقلص تلك النجاحات جزئياً وأن يطرح تحديات جدية. وعلى الرغم من الجهود التي بذلت في السنوات الأخيرة والقوانين المرتبطة بتوظيف العمالة الوطنية، مازال سوق العمل الخليجي يواجه خللا هيكلياً مقارنة مع نظرائه عالمياً. فعلى سبيل المثال، يشكل عدد المواطنين العاملين في القطاع العام في الخليج نحو 58% من إجمالي العمالة الوطنية، (مقارنة مع 42% فقط في القطاع الخاص). ويعتبر هذا المعدل مرتفعاً، كما أنه يتخطى ذلك في بعض الدول، إذ بلغ نحو 90% في قطر في عام 2007، و86% في الإمارات، و84% في الكويت، بينما بلغ 50% في السعودية. وتشير هذه الأرقام إلى أن قدرة القطاع العام الخليجي على استيعاب العمالة الجديدة قد تكون بلغت حدودها القصوى. وقد أعلنت البحرين بوضوح في ديسمبر الماضي الحد من التوظيف في قطاعها العام)، القبس، 9 يناير 2009). تتوجه الأرقام والأبحاث نحو جوانب جزئية وتعتبر ارتفاع البطالة أو انخفاضها هي مشكلات صغيرة، ولا تعتبرها كمؤشرات على خلل بنيوي في البناء الاقتصادي. فحكومات تملك أغلب الثروات الهائلة لكنها تعجز عن التوظيف، وهي غير قادرة على تغيير بنائها هذا. ونلاحظ هنا أن الأبويات الاقتصادية وسيطرة الدول على توظيف العمالة الوطنية تتزايد في دول بعينها، فيما تتقلص في دول أخرى، ويتعلق ذلك بحجم الثروة النفطية وعدد السكان، من دون أن تلعب المدخرات الهائلة السابقة التي لا يعرفُ أحدٌ كيفت تسربت وتنامت في جهاتٍ أخرى، أي من دون أن يكون لها دور جدي في التغيرات الاقتصادية الراهنة السلبية، حيث تقلص الحكومات الخليجية توظيف المواطنين. فهناك ثلاثة ترليونات ونصف الترليون كودائع خليجية في العالم من القطاعين العام والخاص، ثم تعجز عن الدور الأبوي الذي قامت له خلال عقود التهمت فيها الدخول. هذا شكلٌ أولي لتوقف مكائن الدول عن دورها الراعي السابق. ولكن في المقابل يتنامى دور القطاعات الخاصة التي لم تستحوذ كلياً على تلك الثروات في المواد الأولية التي احتكرتها الحكومات لكنها عاشت في خيرها كذلك! تتوجه التحليلات الاقتصادية الخليجية إلى القشور: ( تظهر البيانات أن معدل التوظيف في القطاع الخاص نما بواقع 0،8% في المتوسط سنوياً بين عامي 2003 و2007، بينما بلغ متوسط النمو في القطاع العام نحو 8،2%. وبالتالي، فقد ارتفعت مساهمة القطاع الخاص في إجمالي معدل التوظيف بخمس نقاط مئوية خلال الفترة نفسها. ويعود هذا الإنجاز المهم إلى البيئة الاقتصادية المؤاتية التي دعمت نمو أنشطة القطاع الخاص. وفي الكويت، تشير احدث البيانات إلى أن معدل توظيف المواطنين في القطاع الخاص نما بواقع 16% في العام الماضي، بينما ارتفع في القطاع العام بنحو 9،2%، ما رفع مساهمة القطاع الخاص في إجمالي معدل توظيف الكويتيين بنقطتين مئويتين إلى 18%. وفي السياق نفسه، تراجع عدد الكويتيين العاطلين عن العمل من 9،19 ألف مواطن في 2007، إلى 6،16 ألف مواطن في العام الماضي. وبالتالي، فإن معدل البطالة تراجع من 5،6% إلى 2،5% في الفترة نفسها. (القبس، المصدر السابق). إن المصدر لا يوضح لنا سببيات هذا التراجع في القطاعات العامة وصعودها في القطاعات الخاصة، لا بالتحدث عن طبيعة الأملاك العامة هذه؛(مصانع، معامل تكرير، وزارات، جيوش، شرطة الخ). فالأملاك العامة تـُجرد بتعبير (القطاعات العامة)، مثلما يتم تجريد القطاعات الخاصة وفروع إنتاجها وتبادلها وتداولها بالقول إنها قطاعات خاصة، والأمر له علاقة بالبيانات وطرق التوزيع وغياب الشفافية على مدى عقود في القطاعات العامة. كما أن بؤرة الأملاك العامة كمعامل التكرير والمصانع لا يتم درس علاقاتها بالمؤسسات المدنية الخالصة، وأحجام الفوائض وطرق تراكمها وتوزيعها بين إعادة الإنتاج، وبين صرفها على المشروعات العامة والوزارات. لكن التقرير يعطينا أن قدرة القطاعات العامة على الصمود في معركة التوظيف غير ممكنة، وأنها سوف تتراجع، ويعيد ذلك حسب رأي الخبراء العالميين الذين استعان بهم التقرير إلى عدم القدرة على تطوير قوى العمل البشري الوطني في المنطقة. وهو سبب وحيد مقطوع الصلة كما سوف نرى بعمليات الإنتاج والتراكم، فالتربية والتعليم وإنتاجها لقوة العمل لا تتشكل بشكل مجرد، ومن دون خطط مترابطة بين الإنتاج، وقوة العمل الوطنية، وإذا كان الإنتاج غير مُسيطر عليه، خاصة السيطرة على فوائضه وطرق توزيعها وعودتها لإعادة الإنتاج الموسع، فإن التآكل على مستوى الإنتاج المادي، وعدم الفائدة لقوة العمل الوطني، تغدوان مظهرين لمشكلتي: غياب التخطيط وتسرب الفوائض. وهذا يشير إلى آلية العجز الاقتصادي البنيوي حيث التركيز في النفط ثم في صناعاته أما القدرة على تغيير الخريطة الاقتصادية المتناقضة فهو أمر ليس بقدرة الحكومات كما يبدو، والمقصود بتغيير الخريطة الاقتصادية الاعتماد على قوى العمل المحلية والعربية، وإحداث تحولات صناعية تتناسب مع قوى المنطقة السكانية، وتطوير قدرات شبابها لتلك الصناعات التقنية. لكن القطاعين العام والخاص غير قادرين على ذلك، يدفعهما هاجس الحصول على أكبر الأرباح وتصديرها للخارج للمزيد من الأرباح، أما الشؤون الاجتماعية والاقتصادية الأهلية فهي مضغوطة في ظل الميزانيات المحدودة التقشفية خاصة في بعض الدول الخليجية، فيما يشهد الوضع المالي على ترحيل الأموال من القطاعين العام والخاص للخارج عبر أشكال متعددة، وكذلك عبر العمالة الأجنبية.

صحيفة اخبار الخليج
14 ابريل 2009