المنشور

كلنا «هاملت»..!


لا أظن أن أحداً كان سيترجم رائعة شكسبير: «هاملت» إلى العربية بالجودة والبلاغة التي ترجمها الراحل جبرا إبراهيم جبرا. وكلما عدنا إلى هذه الترجمة اجتاحنا طوفان البلاغة الشكسبيرية في تصوير تمزقات النفس البشرية وعذاباتها.

وأذكر أنني شاهدت «هاملت» مشغولة سينمائياً في فيلم روسي قديم، وهنا أيضاً بدت اللغة المترجمة إلى الروسية في غاية العمق والجمال، ومؤخراً قرأت للدكتور جابر عصفور إشارة إلى أن من قام بالترجمة إلى الروسية ليس سوى «بوريس باسترناك» الأديب الشهير صاحب رواية «دكتور جيفاكو»، التي نال عنها جائزة نوبل للآداب في ستينات القرن العشرين.

ما يشدنا إلى «هاملت» ليس فقط تلك العبارة الشهيرة التي أضحت مثلاً أو قولاً مأثوراً: «نكون أو لا نكون.. ذلك هو السؤال»، وإنما أيضاً ذلك التوصيف العميق لحالة التردد العنيف التي تنتاب البشر حين ينوون الإقدام على قرار معين، خاصة إذا كان لهذا القرار طابع مصيري يحدد مجرى حياتهم.

فقد أراد شكسبير اختبار هذه الحالة من التردد عبر شخصية الأمير الدنماركي «هاملت» الذي كان عليه أن يثأر لمقتل أبيه بقتل عمه. كان شبح أبيه يناديه دوماً بالإقدام على الثأر، لكنه في كل مرة يوشك فيه الفعل سرعان ما يتراجع مأسوراً بتردده.

لم يكن «هاملت» كما رسمه شكسبير شخصاً ضعيفاً أو جباناً، لكنه لم يقدم على القتل. كان قوياً وشجاعاً ونبيلاً، لكنه كان متردداً. لعل شكسبير كان يريد القول إن التردد ليس دلالة الضعف أو الجبن أو اهتزاز الشخصية، إنما دلالة ذلك التمزق العميق الذي يطبع شخصية الإنسان، أي إنسان. وباختبار بسيط يجريه كل واحد منا على نفسه سيلاحظ أن في داخله، بالضرورة، مساحة للتردد في اتخاذ كل القرارات، حتى لو كانت قرارات بسيطة، من نوع أن تذهب للسينما هذا المساء أو لا تذهب، أن تزور صديقاً أو لا تزوره. حتى أكثر الناس إقداماً أو تهوراً أو رعونة لا يستطيعون الزعم أن دواخلهم لا تنطوي على مقدار من التردد، وإن زعموا ذلك فإنهم يكذبون. التردد صفة ملازمة للبشر، معطاة لنا بالفطرة.

بالطبع هناك فروقات بين الأفراد، البعض يكون التردد عندهم مَرضياً، ينم عن هشاشة في الشخصية وضعف فيها، والبعض منهم يكون الإقدام عندهم أشبه بالتهور والرعونة، والبعض يكونون أميل إلى التوازن، إنهم يعيشون حالة التردد لفترة قبل أن يرسوا على قرار، فما أن يتخذوا هذا القرار فإنه ما من قوة قادرة على إثنائهم عن عزمهم على إتيان ما نووا عليه، لأن الإنسان السوي لا يمكن أن يظل متردداً كل الوقت، فهو في النهاية مطالب بالحسم أو معني به. لكن كلنا «هاملت». في داخل كل منا «هاملت» يشبه ذلك الذي رسمه شكسبير. وقد يكون صغيراً وقد يكون كبيراً. ولكنه موجود. في لحظة من لحظات كل منا، في مرحلة من مراحل حياة كل منا لا بد أننا كنا مترددين.