المنشور

ما بعد لندن

خلصنا في آخر مقال إلى أن قمة العشرين التي انعقدت في لندن ستبين أن الأزمة المالية الاقتصادية آخذة في التطور سياسياً. وقد بينت القمة بالفعل هذا التطور. طبعاً، لايزال الوضع لا يشبه ما كان عليه حين انعقد مؤتمر لندن النقدي الاقتصادي العام 1933 في عز الكساد العظيم. في ذلك الوقت لم يستطع المؤتمرون تحت راية عصبة الأمم أن يتفقوا على وسائل مكافحة الأزمة الاقتصادية. وقد أطال هذا الفشل عمر الكساد لسنوات، ثم تطور الوضع بشكل مأسوي أدى في النهاية إلى نشوب حرب عالمية.
لايزال الوقت مبكراً للحديث عن النتائج النهائية لقمة العشرين، لكنه أصبح من الممكن الحديث عن بروز مراكز قوى – تحالفات – ثلاثة جديدة نتيجة التطور السياسي للأزمة، وأن القمة تمكنت لحد الآن من تدوير بعض الزوايا الحادة في العلاقات بين المحاور الثلاثة: محور الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا (الأنجلوساكسوني)، محور القارة الأوروبية بقيادة ألمانيا وفرنسا، وأخيراً محور العالم النامي بقيادة جمهورية الصين الشعبية. نتائج القمة بيّنت أن أميركا لم تعد قادرة على الدفاع عن مصالحها الاقتصادية من دون الالتفات إلى أحد، فعالم القطب الواحد قد أفل فعلاً. كما أن للضعف الاقتصادي الذي تعانيه أميركا إسقاطاته على قدرتها على المناورة في القضايا الجيوسياسية أيضاً. وكذلك الحال بالنسبة إلى النزاعات الإقليمية التي كانت تحضر فيها المصالح الأميركية بشدة. لكننا اليوم سنركز على التطور السياسي من أجل صوغ نظام اقتصادي جديد.
بخلاف كل التوقعات لم تصر الصين في قمة العشرين على مطلبها باستحداث عملة عالمية جديدة تحل محل الدولار الأميركي. ذلك رغم أن الصين وجدت في روسيا داعماً قوياً لمطالبها. والحقيقة أن الصين لم تعد ميالة إلى إحداث هزة نوعية جديدة في النظام العالمي غير المستقر أصلاً. تبلغ أصول الصين من الدولارات حسب مختلف التقديرات ما بين 1.2 و1.7 تريليون دولار. وأي تهديد لوضع الدولار حالياً سينال من رفاهية الدولة الصينية نفسها. لكن الصين نجحت في إرسال إشارة قوية للاعبين الأساسيين عن عدم قبولها بالوضع القائم من حيث المبدأ، على أن يتم التصدي لهذا الوضع في وقت لاحق. أما على المدى القريب (في السنة الحالية) فمهمة الصين الرئيسة تتمثل في تقليص أصولها الدولارية من دون أن يثير ذلك الفزع في أسواق المال. ويرى بعض الخبراء أن إحدى الوسائل هي شراء بعض مكامن الثروات الطبيعية في الخارج. وبالفعل، فقد اشترت الصين في الشهرين الماضيين ما قيمته 50 مليار دولار. ويؤكد آخرون أن هدف الصين سيكون إيصال خفض الدولارات في احتياطاتها النقدية الذهبية من 70 إلى 50%. عند ذلك سيتم التعويض عن هبوط سعر صرف الدولار بارتفاع العملات الأخرى وأسعار الذهب. وإذا ما احتسبنا ليس الاحتياطات فقط، بل وأصول المصارف الصينية وصناديق الاستثمار الحكومية، فإن الصين «ستلفظ» نحو 500 مليار دولار بحسب بعض التقديرات.
وقد حققت الصين انتصاراً آخر في قمة العشرين، حيث لم يتم إدراج منطقتي الإدارة الخاصة في هونغ كونغ ومكاو ضمن قائمة «الواحات الضريبية»، ما يسمح ببقائهما على ما هما عليه. كما ستتعزز مكانة الصين في صندوق النقد الدولي، حيث وافقت على استثمار 50 مليار إضافية فيه.
ألمانيا وفرنسا بدورهما استطاعتا تحقيق كل أهدافهما. كان لدى الألمان أربع قضايا رئيسة: الوصول مع مساهمي القمة إلى اتفاق على تنسيق الإجراءات من أجل حفز الاقتصاد العالمي، وضع نهاية للإجراءات الحمائية وحيدة الجانب من قبل بعض الدول وخصوصاً أميركا، إيجاد رقابة صارمة على سوق المال العالمية، وخصوصا صناديق التحوط وبعض المنتجات المالية ذات المخاطر العالية، وأخيراً وضع نظام فعال للتفتيش على ما يسمى «الواحات الضريبية». وكان الألمان يدركون أنهم إذا لم يحققوا أهدافهم هذه المرة فلن يتمكنوا من ذلك في السنوات الخمس المقبلة، كما أوضحت ذلك ميركل نفسها مساء الأول من أبريل/ نيسان.
لقد شكّلت ألمانيا وفرنسا العمود الفقري لجبهة المواجهة الأوروبية ضد النموذج الاقتصادي الأنجلوسكسوني. وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد أكدت قبل انعقاد قمة العشرين أن «استنفار القوى من أجل الخروج من الأزمة لا يجب أن ينسينا الأسباب التي أوقعتنا في الأزمة، لكي لا نبدو فيها مجدداً»، مشيرة إلى ضرورة صوغ نظام مالي جديد. أما ساركوزي فقد هدد بالانسحاب من القمة، وأيّدته ميركل في الوقوف ضد محاولات بريطانيا لما أسمته «المساومات الجبانة».
ما كشفت عنه قمة العشرين من تطورات سياسية بشأن الاقتصاد العالمي، وما تشير إليه معطيات الأزمة بأنها ستمتد لسنوات لا شك سيؤثر كثيراً على نفوذ أميركا العسكري السياسي حول العالم. فلن يعود لدى الولايات المتحدة ما كانت تتمتع به من مواردها الذاتية والعالمية لدعم ذلك النفوذ. وسيتعين عليها طوعاً أو كراهية إعادة النظر في سياسياتها الخارجية إزاء مختلف بلدان العالم ومناطقه. وهو ما سنعود إليه لاحقاً.
 
صحيفة الوقت
13 ابريل 2009