المنشور

التخلف مسئولية من؟


يوجه بعض الإخوة العلمانيين وأصحاب الحداثة بأصابع الاتهام نحو الإسلام بصفته أساس التخلف، ولو أنه ما كان الإسلام لكان العرب وأهل الشرق الذين يدينون به متقدمين الآن. وقد قيل كثيراً عن السببيات الموضوعية للتخلف لكن لا تجد صدى فكرياً في عداوة متأصلة غريبة متكلسة لا تنفع فيها التحليلات والقراءات. هي أشبه بكراهية عميقة تجاه دين، أو عقدة نفسية سياسية استحكمتْ وتغلغلت، منذ أن يُؤخذ الصبي ويُختن ويُحفظ آيات بقوةٍ ويُضرب وتـُحفر في جلدِ ذاكرتهِ آيات يرى بعد ذلك كيف هي متناقضة مع العلوم وكيف أن سيطرة أولئك البدو لا تزال تضعُ قبضاتها فوق روحه. وتتفاقم هذه العقد في نفسه حين يذهب للغرب أو للشرق المتقدمين عن أبناء وطنه أو أمته البسطاء، فيجد هناك أدوات التحليل المتقدمة والعلوم والحريات والمتع، وهي كلها تشكل في ذاته عالماً مغايراً كبيراً قوياً مضاداً لعالمه الديني الذي تربى فيه. عالم متقدمٌ جاهز فلماذا نتعب أنفسنا؟ وحين يجيء يجد أن عالمه صار أكثر تخلفاً، وصارت(الحركات الإسلامية) تقود الناس للوراء بدلاً من أن تقودهم لطرق التقدم فلا تريد أن تتفهم العصر ولها نسخها الجاهزة من الماضي ولا بد أن تـُركب هذه بالقوة على الناس والتطور، ويصل بعضها إلى استخدام العنف الرهيب بحيث لا يمتلك مثل هذا الصبي المجلود سابقاً بعصا المطوع، الذي حُوصر وحوصرت أمه وأخواته بكل قيد، وقـُمع باسم سلطات وحركات تتحدث باسم الدين، سوى أن يكفر بكل ذلك، ويغدو له هذا مخرجاً سهلاً ومضيئاً، فما أن تنكر تلك الحضارة(التي يتشدقون بها) حتى تنسجم مع نفسك وتقدم لهم الطريق الصحيح للتطور والحرية والتقدم.  ألم يكسر بطل (قنديل أم هاشم) القنديل بعد أن جاء من أوروبا وهذا القنديل في رأيه هو سبب الأمراض؟ ولم تقدم المدارس الأوروبية والحديثة التي تربى فيها ثقافياً أي أدوات ناجعة لتحليل أمته، فهي تلغي التقدم الذي تحقق سابقاً على أيدي أمة متخلفة، وهي تفرشُ سجاجيد السيطرة على العالم.

لم ينشأ الصبي على محبة الرموز بل على كراهيتها، لم يحبها وهي تناضل في ظروفها الصعبة الرهيبة، لم يجد أي تحول بين الانحصار في زوايا العالم الصحراوية وخلق إمبراطورية ثقافية متمدنة بمقاييس عصرها، وهو إنسان لا يحقب التاريخ ولا ينظر له كحلقات من التطور البطيء المتدرج الصعب، مثله مثل الديني المحافظ الذي يرى التاريخ كعلبةٍ سحريةٍ يجب نقلها من مكان إلى آخر ومن عصر إلى عصر، بكتائب الجهاد المقدسة، التي تحرسها عن العيون والمؤثرات الشريرة للأمم الأخرى الكافرة، وعبر بضعة مفاتيح تنفتح وتجلب كل الخير النافع. والصبي الذي صار مثقفاً يُشار إليه بالبنان  لا يقدر أن ينزل إلى مستوى العامة، وأن يجادلهم في معتقداتهم(الساذجة)، فينأى بنفسه عنهم، ويجثمُ مع صحبته التي تتداول نفس أفكاره فينشرح صدره ويقاوم قوى التخلف في المجالس المغلقة عن الهواء والجهات الأربع، ولديها معلباتها الجاهزة تفتحها وتتغذى ثقافياً منها. بوده لو يصرخ من النافذة: (تخلوا عن هذا الدين لتتطوروا وتلحقوا بالأمم المتقدمة!)، ويضيف (حتى تعاليم بوذا أفضل من هذا كله) ولكن الناس الجاهلة الغارقة في الزرع والمعامل والحارات المتعبة لا تسمع ذلك للأسف، وهناك كم هائل من المشكلات الاقتصادية والسياسية تتفجر كل يوم، فوق رؤوسها وعليها أن تدفع الأثمان للحكومات والحركات الدينية والسياسية، وترفع فوق كواهلها المتعبة منذ قرون قوى جديدة تمتصُ دماءها! وهي أمية في أغلبيتها قادرة على فهم آخر النظريات المنتجة في الخارج.

إذا استحكمت عقدة المثقف العدو اللدود للإسلام فأمامه طريقان لا ثالث لهما، إما أن ينضم للقطيع المتمصلح من بيع الأفكار، وإما ينتحر ثقافياً. الانتحار الثقافي يعني دائماً العجز عن مشاركة المثقف في تحليل الحياة ومعرفتها وتغييرها، يتمظهر في لوحات تجريدية أو قصص مسطحة أو أفكار معلبة تردد كل يوم، أو تنظيمات غير قادرة على الفهم والتطور، أو في عجز المثقف العدمي (المسلم) عن فهم واقعه والمساهمة في تغييره. مهما كانت أفكار المثقف العدمي المعادية للإسلام يظل مسلماً، فالإسلام كيان اجتماعي سابقٌ على وجوده الفردي، مثلما أن الإنسان يظهر وقد اكتسب يداً مدربة على العمل، هي نتاج ثلاثة ملايين من تطور البشرية، مثل بقية أجهزته، وحين يظهر الإنسان في المجتمع المسلم يغدو مسلماً بالضرورة، فثقافة المجتمع يتشربها، ويتشكل بها، وهذه الثقافة هي الجوهر الذي تكون فيه، يتألم مع معاناة أبطال الشعر الجاهلي، ويفرح لوحدة العرب غريزياً، ويتبصر تقدم حضارتهم، ويتعذب من استعبادهم واستغلالهم من قبل القوى الأجنبية، وتتحكم فيه ديانتهم بزواجه وتنشئة عياله وباستقلالهم عنه وعودتهم لينابيع إرثهم حتى لو كانت العودة ضد أبيهم، وبحلالها وحرامها، وبتغير زوجته تجاهه وعلاقاتها مع النسوة(المتخلفات)، وبإقامة علاقته مع جيرانه ومحيط عمله. فالعام والوجود الاجتماعي متأصلٌ فيك ولو كنت تحتقره. وإذا رفض كل ذلك وازداد انسحابه فإنه ينفصم اجتماعياً ويهاجر بجسمه أو بروحه.

كان ومازال لدينا علماء ومثقفون منكبون على قراءة التراث وفحصه، ورؤية بعض الخيوط المضيئة فيه، وعاش هؤلاء عيشة الزهد والتضحية، والتصقوا بتلك الأوراق التراثية الصعبة الفهم، وبمجلداتها، حتى كشفوا جوانب مهمة من الماضي وصفحات رائعة وبطولات ثقافية وفكرية، ومزجوا بين الماضي والعصر وجعلوا القراء يحصلون على جسور للتواصل وعلى مواد من الماضي لتغيير الحاضر. التخلف مسئولية جماعية بين الماضي والحاضر، منقولة إلينا بعض جوانبها منه، ومنتجة في عصرنا كذلك ومُضافة إليها السلبية وعدم تضافر الجهود الشعبية لتغيير ذلك.
 
أخبار الخليج 8 ابريل 2009