المنشور

النعيمي… الغائب الحاضر


عامان مذ ترجّل الفارس… وعامان مذ توارى عن الأنظار خلف السحاب.

في ذكرى غيابه الثاني، كتبت كريمته أمل عن ذكرياتها مع الأب الذي هاجر بأسرته إلى موانئ الثورة البعيدة، متنقلاً كالرحّالة القدماء بين ظفار وعدن ودمشق وبيروت وطرابلس الغرب. رحلة شتاتٍ تكبدتها مئات الأسر من أجل الوطن في أزمان العسر والشدائد. حتى الأسماء يغيّرونها بتغيّر الأمكنة والفصول… دع عنك الدراسة والمدارس والأصدقاء مع الإبقاء على الحبل السري الذي يوصلهم بالوطن.

أن تكون وحدك مهاجراً فذاك خيارٌ يخصك وحدك، أما أن تحمل على ظهرك أسرةً كاملةً، فذاك خيارٌ أصعب وأشق، ألذلك كان عبدالرحمن النعيمي يختار دائماً الأصعب على نفسه؟

كان الحديث في الماضي عن التجارب الشخصية. عن الروّاد والمضحّين من أجل الوطن. عن جيل الكبار والمؤسّسين في الحركات القومية والإسلامية. اليوم على البحرين أن تصيخ السمع لجيل «الدياسبورا». الجيل الذي تربّى في المنافي أيام «أمن الدولة». كانوا صغاراً في أحضان أمهاتهم اللائي كنّ يرضعنهم في الغربة حبّ الوطن العاقّ. تُرى لو تفرّغ البحرينيون قليلاً لكتابة تاريخهم القريب جداً… كم من التحف الروائية سيهدونها للمكتبة العربية؟

عامان مرّا… وهل غاب النعيمي يوماً؟ زرته مع بعض الزملاء بعد عودته من الرياض، حيث ألقى المسافر المُتعَب عصاه واستقرت به النوى على سريرٍ في أحد أجنحة مستشفى السلمانية. كان يحفه جمعٌ من أسرته ومحبيه ومريديه. كان صعباً أن ترى عزيزاً ممدّداً تحت الملاءات البيضاء. ابنته كتبت عن تلك اللحظة تقول: «أيقنت ولأول مرةٍ أننا لم نرتوِ من والدي»… وكذلك كثيرون مثلكِ.

عامان مرّا… وفي كل انعطافةٍ حادةٍ يمرّ بها الوطن نتذكّر النعيمي، ونتمنّى لو يطل علينا لنسمع صوته. نتمنّى لو يجلس ساعةً لنبوح له بما يفعلونه بالوطن. فالشعب يجري تشطيره إلى طوائف وأقليات، تتصارع اليوم على فرص الرزق، وغداً على اللقمة والفتات. والوطن يجري تشطيره إلى غيتوات مغلقة متنافرة، وأصبح شعار المرحلة: «لنا مساجدنا ولكم مساجدكم»، و»لنا وزاراتنا ولكم وزاراتكم»، ولم يبق إلاّ أن يقوم المنادي لينادي: «لنا ديننا ولكم دينكم»!

عامان مرّا… ونحن نرتكس في المستنقع أكثر فأكثر. من يدعو إلى الحوار ولغة العقل صار ملعوناً، ومن يدعو إلى الفرقة والشقاق وبث الضغائن والأحقاد صار حادي العيس في الليالي المدلهمة. وإذا كنا نحن إليه اليوم كثيراً، فسيزداد حنيننا له كلّما أوغلنا مستقبلاً في رحلة الضياع.

غاب النعيمي عن الأنظار، ولكنه سيبقى طويلاً طويلاً كذكرى ناصعة بيضاء في أفئدة الناس. رجلٌ شرب كأس الغربة المرّة حتى تقطّعت منه الشفاه. ما عاد ليبيع ماضيه أو يمنّ على شعبه بتضحياته، أو يذكّر الآخرين بما لاقى في الغربة من شظفِ عيشٍ أو أيام جوعٍ وحرمان. فالمتفاني وناكر الذات، الذي يجعل هموم الآخرين همّه الأول ليس غريباً أن يردّد: «لسنا أفضل من أصغر فلسطيني يتألم، ولسنا أفضل من الشهداء أو المعتقلين، فذرة تراب أحذيتهم أطهر وأنقى… حتماً من الكثير مما تتقيأه بعض الأقلام المريضة هذه الأيام.

سيبقى النعيمي للشعب رمزاً وفخراً أن يده ما تلوّثت باستلام جزء من المال العام، في زمنٍ كثر فيه المتسوّلون والمتسلّقون والرُكّع السجود على الأبواب.
 
الوسط 6 ابريل 2009