المنشور

تعـــدد الخطــــاب الدبلـــوماسي


تضع رسالة الرئيس الأمريكي الجديد باراك اوباما الجمهورية الإسلامية الإيرانية والرئيس احمدي نجاد أمام خيار تاريخي جديد «وفرصة تاريخية جديدة» لم تكن الجمهورية الإسلامية قد حظيت بها حتى وان مر على حكم تلك الجمهورية رؤساء مختلفون «تحلوا بدرجة معينة من المرونة», ولكن الظروف التاريخية أحيانا لا تتيح مكوناتها السياسية وعناصرها في مد جسور حقيقية وتمتين علاقاتها أو إعادة تمتين تلك العلاقات مع بلد كان ذات يوم حليفا استراتيجيا مهماً في الشرق الأوسط, وإذا به يصبح بلدا معاديا أو في الخط الأول من جبهة العداء والخصومة استمرت أكثر من ثلاثة عقود. 

 تلك المناخات المتقلبة داخل البلدين لم تتح بشكل واضح لترطيب العلاقات فكلما جاء رئيس منتخب هنا لديه درجة من المرونة اعتلى هناك رئيس متشدد وعدواني ومتصلف يرى في بلدان الشرق الأوسط وغيرها مجرد ملحقيات لا تتعدى ذهنية عبيد القرن الثامن عشر. ولم تهتز تلك العلاقات الدولية اهتزازا حقيقيا وتدخل غمرة من التوتر العالمي إلا مع اختراق البيت الأمريكي في الحادي عشر من سبتمبر, بحيث بات الإرهاب العالمي جبهة جديدة ينبغي مكافحتها عالميا, فتم تضخيم كابوس تلك الواجهة بأكثر مما ينبغي لأهداف تكشفت عنها لاحقا باعترافات الرئيس ذاته عن بحثه لأسباب غير معلنة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة, وكان المحافظون الجدد يدفعون من خلف الكواليس بالرئيس إلى هاوية تناسبه ولكنه لم يكن قادرا على لجم سرعتها ولا ردود فعلها ونتائجها, فتكشفت عن الإخفاقات والعطب المستمر في تلك الخطط العسكرية والسياسية التي تم برمجتها لمناطق عدة, فكان هدف التوسع في بناء القواعد العسكرية هي الهدف الخفي لإعادة أحكام الطوق من جديد على الدب الروسي وثروته وإدخاله القفص الحديدي, بحيث تصبح أوروبا واتحادها خاليا من ذلك البعبع النووي. 

 وفي الوقت الذي عقدت فيه اتفاقيات تخفيض الأسلحة النووية كانت الولايات المتحدة تبني ترسانتها المتطورة في الفضاء وتدشن قواعد هامة في أفغانستان وبلدان آسيا الوسطى حتى جمهورية التشيك وأوكرانيا. هذا الطوق العسكري الجديد لم يكتف الأمريكيون به في الجزء الاوروآسيوي وشرق أوروبا والبلقان «الجديد» وإنما امتدت بناء القواعد إلى منطقة كردستان العراق وبلدان المنطقة بكل حزامها المطوق إلى إيران.
 ولم تخف الولايات المتحدة في ردودها على مخاوف نصب تلك الصواريخ في جمهورية التشيك والموجهة إلى أراضي جمهورية روسيا, فكانت الإجابة المرعبة أيضا أنها «موجهة إلى إيران خشية من عمليات إرهابية», فهل بإمكان جمهورية إيران الإسلامية أن تطمئن إلى وضعها الداخلي وهناك صواريخ موجهة إلى عمق أراضيها؟ سؤال مشروع يقابله سؤال أكثر شرعية ، كيف تطمئن دول الجوار لأوضاع أفرزت توتراتها ونتائجها إلى أن تصبح دول مجلس التعاون نفسها حالة سياسية نابعة من صراع القوى الإقليمية والدولية في قلب منطقتها دون أن تكون طرفا يرغب في الهجوم أو فكرة الحرب أو التوسع العدواني؟. تلك الحالة السياسية لقوة إقليمية جديدة ترغب في بناء سياسة سلمية في المنطقة تجنبها حالة الحرب المدمرة والتي لن يكون فيها خاسرا إلا الشعوب والحكومات والتنمية.

ربما كان رد احمدي نجاد على رسالة اوباما بفتح علاقات جديدة بين البلدين «فهي من حيث مضمونها الدبلوماسي تفتقر للحكمة والخبرة السياسية» فكل ما يفهمه الرئيس الإيراني هو كيفية حماية العرين من هجمة شرسة يتوهمها أو يعيش في كابوسها الطويل, لهذا تستمر نزعته الأولى وهي «حالة الاستنفار الثوري للجمهورية في لحظة اندلاعها وهيجانها الطلابي وهجومها على السفارة الأمريكية», مما يجعل الخطاب الطلابي هو السائد في خطاب الدبلوماسية الإيرانية, في وقت تحتاج فيه للمرونة وإعادة قراءة اللحظة التاريخية والمتغيرات فيها.
فهناك بالإمكان ممارسة خطين متوازيين معا «يتداخلان ويتقاطعان تارة وينفصلان تارة أخرى», بحيث لا يسمح لذلك الخطين الاقتراب من الثوابت للسياسة المبدئية لكل بلد, وان كانت هذه الأشياء قابلة في عصر انهيار الأيديولوجيات المتشددة القبول بها والعودة إلى ممارسة البراغماتية أحيانا, لهذا نرى في عمق خطاب الرئيس الأمريكي ليونة في الدبلوماسية وتصلب في الموقف قبل أن يبدأ الحوار, إذ لا تحدث تنازلات ومناورات قبل أن يبدأ اللقاء كعلامة حسن النية ومن ثم الابتداء في فتح الملفات, فيما نرى الرئيس الإيراني قفز قفزات كبيرة نحو سياسات استراتيجية تمس الأمن القومي لنظام سياسي وليس رغبات أي رئيس قادرة على تغييرها بكل بساطة إلا إذا حدثت مجريات كبرى في التاريخ تفتت النزعة الرأسمالية وهيمنتها.

وإذا ما تمعنا جيدا في مضمون خطاب اوباما الدبلوماسي فان من الواجب أن تقابله ردود فعل إيرانية هادئة ودبلوماسية عودتنا عليها الخبرة الإيرانية السابقة. إن ما قاله الرئيس واضحا «إن الولايات المتحدة مستعدة لمد يد السلام إلى إيران إذا ما قامت الأخيرة بإرخاء قبضتها» تلك اللغة الشرطية والدلالية تعبير عميق عن خبرة دبلوماسية طويلة فيما يتوهم الجانب المتشدد انه قادر على إخضاع العالم إلى نزعته وسلوكه السياسي المتوتر.