المنشور

النعيمي في سباته


كان من المحرّمات، اسمه يدخل في الهواء ليخرج سريعاً متلفتاً حذر الصواعق. استهلك الذين قدحوا فيه، وأتعب الذين أرادوا الوصول إلى بعضه، فالكاريزما لا تلقّن ولا تشترى أو تعار، فكان النعيمي الذي آوت إليه قداحات أحلام الكثيرين من الذين خامرهم أمل عظيم بتغيير الواقع إلى ما بعد الوسوسة، فخنست أصوات الذين ظاهروا عليه، وبدا أكثر اتساعاً من قلوب تضيق بها جنباتها، فلا ترى حتى نفسها مما هي فيه من حمق.

كل الدروب قادت إليه عندما قاد الدروب باكراً عندما سطع الأفق ينادي بما لا يتحقق، فكان عليه أن يشد السرج ويعدل من منطقته، يطوي إزاراً عمانياً ربما، عدنياً أيضاً، ويذهب إلى البعيد، فليس للشاقين بطموحاتهم حدود يتصاغرون أمامها، وليس من قيد يشد وثاقهم عن جمع الصورة من أذيالها لتكون كل البلاد ساحة، والسماء شاهدة على انطراح كواهلهم متعبين ساعة، يخامرهم النصر ساعة يراوغهم الرصاص، يستبقيهم لما هو أكبر، فيصبّ سعيد سيف رصاصاً من نوع ثان ليتابع الترحال في وقت كانت القطوف في مسقط رأسه تتوزع على من أعلن التوبة، أو تاب من قبل أن يخطئ، فقليل من الخطايا تقود إلى جنان كالتي خبرتها أنت في حب حتى من ليسوا في صفوفك، ولم يختبروا سجود خطيئة تقديس طين الوطن.

ورطة الميراث تثقل على من يتنكرون لمواريثهم، فهذا النعيمي الذي استل من سلفه مكاسرة الاستعمار، لم يجد من السبل أكثر شوكاً من أن يسير إلى درب والده، ولا أقل وروداً، ولا أصعب فخاخاً، ولا أسخن أرضاً، فتقاذفته جدران المسافة في أرض قيل عنها التيه، وسُميت المنفى، وظنها البعض أنها كسفٌ من النار، ولكنه كان يعطي للأرض اسمها، ويردّ لبلاده سمعة لا تحصل عليها عبّر الكثير من المجوَّفين من قارعي الطبول الجوفاء، فصار عبدالرحمن النعيمي وطناً في غربته، وعاش أناس غربة في أوطانهم، يدلّ عليهم، فالأوطان تحمل كثيرا من الناس، كم قليلٌ منهم يصير أيقونة!

وعكة اعتيادية، ملأت جنبات غرفته الصغيرة في مجمع السلمانية بمن يخشى من تجمعهم أن يسدوا عليه منافذ الأكسجين الطازج، ولكنها كانت البروفة التمهيدية لنيسان 2007 إذ بدأت الأقاويل تثقل أطراف الياسمين الذي استجاب للربيع توّاً، آتية من بعيد، كما كان في البعد كل تلك السنين، فأخذت الأنباء المقلقة عن أبي أمل تتكاثر، حتى تبدّت حقائقها، إنه في مكان يصعب الرجوع منه، ويعزّ على من عرفه التصديق به.
ألهذا الحد يصعب على الوطنيّ أن يغادر هذه الأرض بسهولة؟ من يتشبّث بمن؟ تدافع مع الموت كما فعل سلفه الشيخ عبدالأمير الجمري شهوراً طوالاً، وتبقى الآمال شامخات في أن يجد السادر في هذا الدرب منعطفاً يعيده ليروي ما رأى، ويصوغ ما سيريه لأتباعه، فكلّ يحبّ وطنه، وللناس فيما يعشقون مذاهب، ويبقى المحبوب واحداً لا تتزحزح عنه العيون، فلم كل هذا الشطط في التقرب إليه زلفى ما دام يقبلنا جميعاً، ويقبل نزقنا وطيشنا، ويرأف بنا.

ليس لنا أن نتفق معا بسهولة، ولكن الاختلاف معه ليست فيه خصومة فاجر، فأمامنا أفراد وجماعات، طرائق بعدد الخلائق، يقف أبو أمل ليعطي بعضاً من فيض التواضع وتقبل الآخر والإبقاء على حبال ممدودة مشدودة مع كل الاختلافات فليس للحقيقة بصمة واحد، وللمرايا شظاياها التي تمد الناظر إليها من كل مكان مشهداً لم يكن ليراه لو أنه توقف عن المشاغبة، ووضع أصابعه في أذنيه عن الآخرين.

في سباته العميق، يذهب أبو أمل، بعد أن أعطى في 2006 للناس ما تحرجت وسائل التوصيل عن نقله، وتحشرجت القنوات الإعلامية أن تقوله لهم، خطب فيهم خِطَبَ مودِّع، أوصاهم بأنفسهم خيرا، وبوطنهم خيراً، وبخصومهم خيراً، وابتسم. 



 
الوقت 4 ابريل 2009