المنشور

السر وراء صمود أسعار السيارات

تثير مسألة عدم انخفاض أسعار السيارات في‮ ‬البحرين،‮ ‬رغم أزمة الكساد العظيم التي‮ ‬تعصف بالعالم،‮ ‬جدلاً‮ ‬مجتمعياً‮ ‬واسعاً‮ ‬في‮ ‬الدواوين كما عبر عدد من المواقع والمراسلات البريدية الإلكترونية واسعة النطاق‮.‬ فأسعار السيارات بجميع ماركاتها مازالت محتفظة بمستوياتها العالية التي‮ ‬بلغتها إبان ارتفاع تكاليف الإنتاج في‮ ‬السنتين الأخيرتين نتيجة لارتفاع أسعار الطاقة‮ (‬النفط والغاز ومشتقاتهما تحديداً‮). ‬بل إن أسعار بعض أنواعها قد سجل ارتفاعاً‮ ‬ملحوظاً‮ ‬قياساً‮ ‬إلى سعرها في‮ ‬العام الماضي‮.‬ والواقع أن الأمر لا‮ ‬يقتصر على أسعار السيارات وإنما‮ ‬يمتد ليشمل عدداً‮ ‬من السلع الاستهلاكية والغذائية أيضاً‮.‬ ولكن إذا كان نجاح السلع الاستهلاكية والغذائية في‮ ‬الاحتفاظ بمستويات أسعارها التي‮ ‬كانت حققتها أثناء ذروة صعود الدورة الاقتصادية العالمية،‮ ‬مفهوماً‮ ‬باعتبارها تتمتع بطلب عال متصل‮ ‬غير منقطع بسبب صعوبة الاستغناء عنها،‮ ‬فإن إصرار وكلاء السيارات في‮ ‬البحرين‮ (‬وإلى حد ما في‮ ‬دول مجلس التعاون الأخرى‮) ‬على الاحتفاظ بالمستوى السابق للأزمة من أسعار سيارات معارضهم،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك الطرازات الجديدة التي‮ ‬تم استيرادها في‮ ‬الربع الرابع من العام الماضي،‮ ‬أي‮ ‬بعد اندلاع الأزمة،‮ ‬فإن هذا في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬يُعد فيه ضرباً‮ ‬من الفهلوة والتذاكي‮ ‬على حقائق السوق وروادها من منتجين ومستهلكين،‮ ‬فإنه‮ ‬يعكس في‮ ‬الوقت نفسه ضعف الثقافة الاقتصادية الكلاسيكية والمعاصرة لدى شريحة كبيرة من أرباب قطاع الأعمال،‮ ‬وضيق أفقها المتمحور،‮ ‬وربما المتوقف،‮ ‬عند‮ ‘‬هامش الربح‮’ ‬وحده كمتغير اقتصادي‮ ‬ثابت‮ ‬‭(‬Constant Variable‭).‬ حدث هذا رغم التراجع الكبير في‮ ‬حجم مبيعات السيارات لدى كافة وكلاء السيارات المحليين في‮ ‬الشهور الأربعة التي‮ ‬تلت الأزمة،‮ ‬بامتناع المشترين الجدد عن الإقدام على شراء سيارات جديدة بانتظار هبوط متوقع ومفترض في‮ ‬أسعارها أسوة بما حدث في‮ ‬الولايات المتحدة وأوروبا واليابان‮.‬ إلا أن‮ ‘‬تجار‮’ ‬السيارات لدينا لا‮ ‬يعترفون بشي‮ ‬اسمه تعاقب الدورات الاقتصادية باعتباره مكوناً‮ ‬أساسياً‮ ‬من بنية الرأسمالية وقوانينها،‮ ‬ولا دورة الكساد التي‮ ‬تتميز بتراجع أسعار المنتجات والسلع نتيجة لانكماش الطلب عليها وتكدسها في‮ ‬المخازن‮.‬ العالم كله مقلوب بأحداث الأزمة الاقتصادية العالمية الطاحنة التي‮ ‬لم‮ ‬يشهد لها مثيلاً‮ ‬منذ ثلاثينيات القرن الماضي،‮ ‬والحكومات والشركات والمؤسسات والبنوك تعمل المستحيل من أجل إعادة الروح إلى اقتصاداتها التي‮ ‬تصلبت مفاصلها بسبب عدم انتظام جريان‮ ‘‬الدم‮’ (‬السيولة‮) ‬فيها‮. ‬حتى بات ممكناً‮ ‬القول إن حكومات دول عظمى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان بدأت تستنفذ ذخيرتها من أدوات التدخل السريع لحقن وإنعاش الاقتصاد،‮ ‬بعدما فشلت الدفعات المتوالية لحزمة الأموال التي‮ ‬ضخت حتى الآن في‮ ‬اقتصاداتها،‮ ‬وبعد أن وصلت معدلات الفائدة فيها إلى ما‮ ‬يقارب الصفر‮.‬ ومع ذلك فإن كل هذا لا‮ ‬يعني‮ ‬شيئاً‮ ‬لجهابذتنا التجار‮ .. ‬أبداً‮ ‘‬عمك أصمخ‮’ ‬كما‮ ‬يقول المثل الشعبي‮.‬ في‮ ‬الولايات المتحدة التي‮ ‬هوت فيها مبيعات السيارات الأمريكية بأكثر من‮ ‬41٪‮ ‬في‮ ‬شهر فبراير الماضي‮ ‬لتصل إلى أدنى مستوى لها منذ‮ ‬3‮ ‬عقود،‮ ‬لم‮ ‬يجلس منتجو وموزعو السيارات الأمريكية لينتظروا تخلي‮ ‬الأمريكيين عن عزوفهم عن شراء السيارات وأخذ قروض جديدة لتمويل عمليات الشراء هذه كما هو حادث في‮ ‬العادة،‮ ‬وإنما هم تحركوا لمحاولة استنهاض الطلب الراكد بعرض خصومات هائلة على أسعار سياراتهم كي‮ ‬لا‮ ‘‬تصدِّي‮’ ‬في‮ ‬مخازنهم‮.‬ الشيء نفسه فعله أرباب صناعة السيارات الأوروبية واليابانية التي‮ ‬انخفضت فيها مبيعات كل من تويوتا موتور كورب ونيسان موتور بنسبة‮ ‬37٪،‮ ‬وتراجعت مبيعات هوندا موتور بنسبة‮ ‬38٪‮ ‬من الشهر نفسه‮.‬ وما دام الشيء بالشيء‮ ‬يذكر فلقد اشترى بعض كبار التجار لدينا كميات كبيرة من حديد التسليح إبان فترة ارتفاع أسعاره حين وصل سعر الطن الواحد إلى أكثر من‮ ‬1700‮ ‬دولار‮ (‬أكثر من‮ ‬600‮ ‬دينار‮)‬،‮ ‬وذلك في‮ ‬محاولة للاستفادة من طلب قطاع الإنشاء والتعمير،‮ ‬القوي‮ ‬آنذاك،‮ ‬على مواد البناء‮. ‬ولكن ذلك كان قبل بضعة أشهر‮. ‬أما اليوم فإن سعر الطن الواحد من حديد التسليح فيبلغ‮ ‬حوالي‮ ‬500‮ ‬دولار‮ (‬حوالي‮ ‬مائتي‮ ‬دينار‮). ‬وكان من الطبيعي‮ ‬أن‮ ‬يتعرض هؤلاء التجار إلى خسارة كبيرة نتيجة الفجوة الكبيرة التي‮ ‬حدثت بين سعر كلفة الشراء وسعر السوق اليوم‮. ‬فهم لم‮ ‬يتحسبوا لشيء اسمه فقاعة سوق العقار والتشييد،‮ ‬ولم‮ ‬يقرأوا التداعيات المالية والاقتصادية العالمية لأزمة الرهن العقاري‮ ‬في‮ ‬الولايات المتحدة،‮ ‬ولم‮ ‬يبادروا للتخلص من مخزون مشترياتهم حين استشعروا بداية انحدار السوق‮. ‬فلقد آثروا الانتظار لحين استعادة مستويات أسعاره السابقة‮! ‬وهم اليوم‮ ‬يحاولون بشتى السبل تعويض الخسائر التي‮ ‬مُنيوا بها‮!‬ تجار السيارات لدينا،‮ ‬كما هو معروف‮ ‬يحسبونها بالملِّي‮ ‬كما‮ ‬يقول المثل الشعبي‮. ‬فهم لا‮ ‬يشترون كميات‮ ‬غير معلومة من السيارات ويخزنونها في‮ ‬مخازنهم،‮ ‬وإنما هم‮ ‬يقومون بحجز الكميات المقاسة بناءً‮ ‬على طلبات الحجز الفعلية للزبائن،‮ ‬بما‮ ‬يضمن تصريف أغلب الدفعات المستوردة،‮ ‬وما‮ ‬يتبقى من معروض في‮ ‬المعارض والمخازن،‮ ‬بسبب ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية الداهمة المتسربة آثارها إلى كافة الاقتصادات العالمية،‮ ‬فهو لا‮ ‬يعدو أن‮ ‬يكون تلك الكميات التي‮ ‬تم استيرادها بناءً‮ ‬على تاريخ‮ ‬‭(‬History‭)‬‮ ‬الطلب على أنواع محددة من الماركات سريعة التصريف‮.‬ أما لماذا لم تنخفض أسعار السيارات،‮ ‬فذلك لأن وكلاءها ليسوا مضطرين لتصريفها بأسعار مغرية لتحفيز الطلب المتراجع،‮ ‬وذلك لأنهم ليسوا في‮ ‬ضائقة مالية تضطرهم للبحث عن سيولة حالّة لسداد قروض شرائها كما هو حال أولئك الذين‮ ‬يشترون الأسهم بواسطة قروض مصرفية،‮ ‬فإذا ما انخفضت قيمتها إلى مستويات مقلقة فإنهم‮ ‬يضطرون لبيعها لسداد جزء من الدين للبنك‮. ‬فتجار السيارات مولوا صفقات شرائهم،‮ ‬على ما هو واضح،‮ ‬ذاتياً‮. ‬وهم لن‮ ‬يخسروا شيئاً‮ ‬إذا ما تأخر تصريف سياراتهم بضعة شهور على أمل‮ ‬يأس الزبائن من حصول تخفيضات في‮ ‬أسعارها ومعاودة طلبهم عليها بأسعارها المحسوبة على أساس هوامش الربحية السائدة إلى ما قبل الأزمة،‮ ‬مع أن بقاء السيارات‮ ‬غير المباعة في‮ ‬الميناء‮ ‬يكلف التاجر المستورد لها‮ ‬5‮ ‬دنانير‮ ‬يومياً‮ ‬كرسوم أرضية‮.‬ كما إن عدم وعي‮ ‬المستهلكين،‮ ‬بمجاراتهم لقوانين لعبة السوق التي‮ ‬يفرضها التجار،‮ ‬بإقبالهم على شراء السيارات‮ ‬يجعل التجار‮ ‬غير مضطرين لإحداث حسومات سعرية عليها.
 
صحيفة الوطن
22 مارس 2009