المنشور

صناعة الجهل


طالعتُ, منذ فترة, تحقيقاً في إحدى المجلات عن «المعلومات العامة» للشباب. التحقيق المذكور مبني على استبيان ثقافي يتضمن مجموعة من الأسئلة التي تتناول أو تتصل بمعلومات مختلفة في مجال الاكتشافات العلمية والطبية وثورة المعلومات والاتصال, وأسئلة أخرى حول شخصيات وأعلام ورموز في السياسة والثقافة والفن, فضلاً عن معلومات ذات طابع جغرافي.

وليس مفاجأة كبيرة أن نقرأ إجابات غريبة على أسئلة لا تبدو في الظاهر صعبة, وينطوي الأمر على طرائف ونوادر أيضاً, كأن يعتقد البعض بأن اسم طوني بلير رئيس الحكومة البريطانية السابق هو مغني في فرقة مشهورة, وأن فلاديمير بوتين رئيس وزراء روسيا هو لاعب كرة برازيلي وأن تشي جيفارا هو اسم لماركة تجميل عالمية.

إنه أمر يتكرر في مناسبات عديدة حين نفاجأ ونحن نتابع برامج المسابقات على الشاشة أن ما نعده بديهياً وبسيطاً لا يبدو كذلك بالنسبة لأعداد كبيرة من المشاركين, خاصة من الشباب, ومن الجنسين على حد سواء. والواقع أن المعلومات العامة ليست هي نفسها الثقافة أو الوعي, رغم أنها قد تكون مظهراً من مظاهرهما, ولكنها في الجوهر أمر مختلف, وإلا لكان علينا أن نعد جميع أولئك الذين يُظهرون مهارة في حل الكلمات المتقاطعة في الصحف والجرائد مثقفين.

إن الثقافة قبل أن تكون معلومات عامة هي رؤية للحياة وتصور للأشياء والمفاهيم والقيم. مع ذلك علينا ألا نستخف بظاهرة أن شباباً أنهوا تعليمهم الجامعي في تخصصات مختلفة ويطالعون الجرائد كل يوم, أو هكذا يفترض, ويشاهدون نشرة الأخبار في التلفزيون يجهلون مثلاً من هو طوني بلير أو بوتين. وبالطبع يمكن الرد على مثل هذا التساؤل بالقول إن الأشخاص الذين يجهلون من تكون مثل هذه الشخصيات يمكن أن يجيبوا على أسئلة أخرى أكثر تعقيداً في مجالات أخرى, وقد تكون لديهم مهارات في استخدام الكمبيوتر والأجهزة الحديثة غير متوفرة لمن هم أكبر منهم سناً. ولكن مثل هذه الاستطلاعات أو السابقات التلفزيونية تنم عن نمط من «الثقافة» شائع في المجتمع, وفي صفوف الشباب خاصة, للدرجة التي تجعلنا نتساءل أحياناً عن ما الذي يدرسه هؤلاء الشباب في المدارس والجامعات, وإلى أي مدى نعطي لأنفسنا الحق في تحميل النظام التعليمي مسؤولية هذا «الجهل» الذي يعاني منه شبابنا. في حينه تحدث أفلاطون عما وصفه بـ «الجهل المزدوج», قاصداً بذلك جهل من يدعي إنتاج المعرفة, فيما هو لا يقدم للآخرين سوى الجهل عينه, لأنه هو ذاته جاهل.

والعصر الحديث أنتج الوسائط الفعالة القادرة ليس فقط على إنتاج هذا الجهل وإنما تعميمه وتسويقه بصورة جذابة, آسرة, ساحرة, تماماً كما تُسوق السلع الأخرى من خلال «فاترينات» العرض أو من خلال الإعلان الذي يتوسل أكثر الأساليب فتنة ومتَعا وجذبا. وفي القرن التاسع عشر, في عام 1848, كتب تشارلز ديكنز يقول: «نسمع أحياناً كلاماً عن دعوى التعويض عن الأضرار ضد الطبيب غير الكفء الذي شوه أحد الأعضاء بدلاً من شفائه. ولكن ماذا يقال في مئات آلاف العقول التي شوهتها إلى الأبد الحماقات الحقيرة التي ادعت تكوينها»؟



الأيام 16 مارس 2009