المنشور

القضاء الدولي وملاحقة البشير (2ــ 2)

لم تكن محكمة الجنايات الدولية التي انشئت بمقتضى معاهدة روما في أواخر تسعينيات القرن الماضي ودخلت مباشرتها وممارستها لاختصاصاتها وإصدار أحكامها حيز التنفيذ بعد حصولها على العدد القانوني من الدول المصدقة على المعاهدة في أوائل العقد الحالي.. نقول لم تكن هذه المحكمة نبتة شيطانية أطلت بأغصانها فجأة على أرض الساحة الدولية، أو هبطت على حين غرة مع شهب أو نيزك من كوكب آخر، بل هي مولودة شرعية وثمرة من ثمار تطور الفكر والضمير البشري في المجتمع الدولي المعاصر نحو الارتقاء بذينك الفكر والضمير باتجاه عولمة حقوق الإنسان، ودمقرطة الفكر السياسي المعاصر على اختلاف مدارسه وتياراته الأيديولوجية وانتماءاته الدينية والعقائدية في العالم كله، بدءا من إنشاء الأمم المتحدة 1945، فقيام محكمة العدل الدولية، وصدور الإعلان العالمي 1948 لحقوق الإنسان، ثم صدور العهود الدولية التي جاءت بمقتضى ذلك الإعلان، وإنشاء لجنة حقوق الإنسان في إطار الأمم المتحدة، ومروراً بالوكالات والمنظمات المتخصصة المتعددة العاملة في إطار الأمم المتحدة والتي تنص مواثيقها على مراعاة تلك الحقوق في مجال تخصصها، كمنظمتي الصحة والعمل الدوليتين على سبيل المثال لا الحصر، وليس انتهاء ربما بإنشاء محكمة الجنايات الدولية. وإذا كانت محكمة العدل الدولية مثلا لا تقبل إجراءات التقاضي للفصل بين المنازعات الدولية التي تدخل في اختصاصاتها إلا بناء على قبول الأطراف المتنازعة، فالإشكالية في محكمة الجنايات الدولية أنها بفكرها ومبادئها واختصاصاتها وسلطاتها القضائية متقدمة على سقف الواقع الفعلي الذي يحكم أعضاء الأسرة الدولية المعاصرة. ذلك أن هؤلاء الأعضاء (الدول) جميعهم تجمعهم منظومة الأمم المتحدة التي تشكلت على أساس نتائج الحرب العالمية الثانية 1945، وأطلقت يد التسلط للدول الكبرى للتحكم في القرارات المصيرية من خلال مجلس الأمن، وتحديداً الدول الخمس الكبرى: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (روسيا حاليا) وبريطانيا وفرنسا والصين. وبالتالي فإن القضاء الدولي المعاصر مثله في ذلك، مثل القضاء الوطني، ينبغي أن يكون سلطة قضائية مستقلة نزيهة محايدة، وهذا ما لا يمكن تحقيقه في المرحلة التاريخية العالمية المعاصرة للمجتمع الدولي في ظل منظومة دولية مازال الكبار هم الذين يتحكمون في الكثير، كما ذكرنا، من آلياتها ومفاعيلها في القضايا الدولية. ومن هنا فإنها (محكمة الجنايات الدولية) لا تستطيع بالمطلق مد سلطانها على قادة الدول أو رعاياها في ظل هذا التضارب غير المحسوم خلال المرحلة التاريخية العالمية الراهنة بين السيادات المطلقة الممنوحة للدول وبين أولوية سريان أحكام القضاء الدولي المفترضة التي تصدر عن المحكمة لتمد سلطاتها على رؤساء الدول أو كبار المسئولين فيها بل رعاياها. لذا ينبغي أولاً أن تكون هنالك سلطة قضائية ضبطية تمنع القادة الشموليين والاستبداديين من الوصول الى الحكم قبل أن يرتكبوا جرائمهم ومذابحهم ضد شعوبهم، سواء الحقيقية منها أو المزعومة أو التي بين بين.. فهل محكمة الجنايات الدولية تتمتع بهذه السلطات القضائية الدولية؟ أو هل ثمة منظمة قضائية أو رقابية أمنية دولية أخرى تتمتع بمثل هذه السلطة؟ فالقضاء الوطني مثلا لا يمارس دوره إلا في ظل وجود تلك السلطات الضبطية التشريعية والتنفيذية حيث تشرع الأولى قانون منع الجريمة وتراقب الثانية منع انتهاك حقوق الإنسان وهذا يتم في ظل ولو أدنى نظام ديمقراطي عادل. لكن القضاء الدولي في المرحلة التاريخية الراهنة من مجتمعنا الدولي المعاصر انما هو رهينة في كثير من الأحيان في أيدي القوى الكبرى المتنفذة المتسلطة داخل المنظمات القضائية لا بل التي كثيرا ما توظف منظومة التشريعات الحقوقية الإنسانية لخدمة سياساتها ومصالحها على حساب حقوق وسياسات ومصالح الدول الصغيرة حتى لو كان بعضها يتمتع بشعبية وحد أدنى من الديمقراطية. وبالتالي وأمام كل تلك الإشكاليات التي تواجهها الدول الصغرى أو دول العالم الثالث بوجه عام، والدول العربية بوجه خاص، فإنه لا سبيل أمام هذه الدول الأخيرة للهروب الى الأمام من تلك المنظمات، سواء الكبرى منها وعلى رأسها الأمم المتحدة ام «المتخصصة« أم الحقوقية، ولا ينفع في كل مرة وصم كل قراراتها في مجمل الأحوال والظروف بـ «التآمر« أو أنها، المنظمات، برمتها أداة في أيدي الغرب أو «الاستكبار العالمي« على حد تعبير ايران، بل الوجود في هذه المنظمات بكل قوة للعمل من داخلها لانتزاع ما يمكن انتزاعه من حقوق ومكاسب اذا ما كانت لصالح العرب وقضاياهم، شعوبا وقادة. وللأسف فإنه فيما يتعلق بقضية البشير تحديداً فإن هذا الأخير تعامل مع قرار محكمة الجنايات الدولية ليس بضبط النفس بل على نحو انفعالي بالغ كما لو أن فرائصه ترتعد وذلك من خلال خطبه شبه اليومية النارية قبل وبعد صدور قرار المحكمة، حتى وصلت ذروة هذا الانفعال بتأزيم علاقة السودان بالمجتمع الدولي من خلال طرد منظمات الإغاثة بتهمة «التجسس« الموجهة الى قياداتها وكوادرها، في حين كان ينبغي أن يضبط هؤلاء الجواسيس اذا ما صحت «التهمة« قبل قرار المحكمة، لا بعده، والمتضرر الأول من الطرد هو الشعب السوداني الفقير، فضلاً عن إضعاف موقف البشير نفسه أمام محكمة الجنايات ذلك بأنه بمثل ذلك السلوك الانفعالي والمواقف والإجراءات المتسرعة المتهورة فإن البشير كما لو أنه يثبت، من حيث لا يدري، صحة تلك الاتهامات بغض النظر عن مدى صحتها أو كذبها. وهو بتلك المواقف المتشددة يعقد ويصعّب المساعي الحميدة التي تقوم بها الجامعة العربية وذلك حينما طلب منها ان تطالب بسحب ملف الاتهام برمته وليس مجرد تجميد القرار لمدة عام! ولئن كانت محكمة الجنايات، كما ذكرنا، غير مؤهلة في المرحلة التاريخية الدولية الراهنة لفرض سلطاتها ولا لإثبات نزاهتها وتجردها التام، والابتعاد في مطلق الأحوال عن ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، فلعل الرسالة الأهم المستفادة من قرار المحكمة تجاه البشير، صح قرارها أم خطأ، ان يأخذ كل أقطاب الدول العربية العبرة مما تعرض له البشير من «محنة« بهز هيبته أمام المجتمع الدولي باتهامه بارتكاب «جرائم حرب« من قبل المحكمة المذكورة، وهي محنة يمكن ان يتعرض لها أي منهم، ولا سبيل لتفادي ذلك إلا من خلال تعزيز وجود العرب متحدين في هذه المحكمة وتعزيز سُبل الحكم الصالح داخل بلدانهم، وتعميق الإصلاحات الديمقراطية.

صحيفة اخبار الخليج
12 مارس 2009