المنشور

أفكار الرأسماليات الحكومية الشرقية

إن الأفكارَ الخاصة التي تنتجُها الرأسمالياتُ الحكومية الشرقية، وهي لحظاتٌ من عالم الانتقال من الإقطاع نحو الرأسمالية الخاصة على النمط الغربي، هي قوالبٌ إيديولوجية تمثل القوى السائدة في كل نظامٍ شرقي منها. فهي كلها تزعم الحقيقة، ومطابقة أبدية التاريخ، وتمثل حال الإنسان حتى يوم القيامة، من كتب لينين عن الاشتراكية مروراً بالكتاب الأحمر لماوتسي تونغ وبرامج الجبهات الوطنية في سوريا والعراق والميثاق الوطني لعبدالناصر وكتاب الجمهورية الإسلامية للخميني والكتاب الأخضر في ليبيا وغيرها كثير. كلها تشترك في البحث عن طريق آخر غير الطريق الغربي، وابتكار صيغة يُزعم فيها الابتكار والتجديد.
إن تحديات التخلف لهذه الأمم الشرقية، وعمليات التجنيد الأجبارية لجهود الشعوب وخاصة العمال، لهذه الممالك الجديدة الناهضة بعد قرون طويلة من التخلف والتبعية، تجعلها تضع هالات مقدسة على برامجها السياسية هذه، وتصويرها كما لو كانت الطريق الوحيد الذي لا يوجد أبداً غيره. تتميز كل هذه التنوعات من الأفكار في الفرض الجبري المدعوم بالقوة المسلحة على الجمهور. نعم قد تجري إنتخابات وتظهر سوفيتات منتخبة من العمال والجنود، أو يجري إستفتاء على الميثاق أي يتم فرض الدين السياسي الجديد، أو تـُفرض مليشيا عسكرية وفتوات باعتبارها لجان الشعب الحرة، أو تقوم دكتاتورية البروليتاريا يقودها مثقفون نخبويون وعسكر متنفذ، أو يظهر رجالُ الدين الريفيون باعتبارهم صوت الإله المتحكم في العملية السياسية، أو يظهر حكم قوى الشعب العامل وغير هذا من صيغ دكتاتوريات الرأسماليات الشرقية الحكومية. الفرض الجبري للفكرة المسيطرة السياسية يرسمُ خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه، ليتم الحفاظ على صيغة نظام اقتصادي معين يمثل امتيازات الطبقة الحاكمة في كلِ بلدٍ ويضعُ فوق القوى العاملة الشعبية الواجبات الكثيرة وقليلاً من الأجور المحدودة المحددة الصارمة. يتم تبرير هذه الصيغ بأشكال متعددة من الأفكار الانتقائية والحذلقات الفكرية. ولا بد أن يعطى الجمهور العامل بعضاً من الأمل لإجباره على هذه الأعمال الشاقة التي سوف تجلب السعادة الأبدية للأمة أو للطبقة، أما في شيوعية بروليتارية سعيدة قادمة يزول فيها إلى الأبد الاستغلاليون، أو في جنة العالم الآخر حيث يُجزى المؤمنون الصالحون أو لإنشاء الوطن السعيد أبداً.
في مصر الفرعونية كان الجمهور يبنى الأهرامات ويعطونهُ خبزاً وبصلاً وثوماً خلال عشرات السنين من البناء الشاق. أعمال التأسيس لرأسماليات الشرق الحكومية لا تختلف كثيراً عن ذلك، موتى في المصانع بالآلاف، قتلى بالملايين في الحروب، تتحول السجون إلى معسكرات اعتقال ومؤسسات خالدة، أثراء فاحش على صمت الملايين وحبسها ودغدغتها بالحشيش الوطني، استيلاءات عارمة على الأراضي والموارد، استيراد مخيف للعمال والعبيد بالملايين للأعمال الشاقة الرثة الخ. وفي كل تجربة حكومية رأسمالية كهذه لا بد من وجود أمة كبرى تغدو بمثابة الهيكل البشري المسيج للدولة، وكلما كانت موحدة وذات موارد كبيرة أمكنها إحداث القفزة التنموية المطلوبة، كوجود الأمة الروسية أو الفارسية أو الصينية، وغير هذا يجري بصعوبات وتمزقات. إن أفكار الأمة الكبرى المقدسة؛ (أمنا روسيا)، (بلاد العُرب أوطاني)، (مجد الأكاسرة) الخ، تضيفُ إلى زنزانات الحزب الواحد ودستورية الميثاق وحكم العسكر توابل أخرى؛ دغدغاتٌ قوية على المشاعر القومية المصابة دائماً بالجراح، إستحضارُ الأبطال القوميين وبثهم في الشوارع والأغاني والمناهج، دمجهم بالقادة المعاصرين، الحماسة الهائلة للقومية ومعاركها الحقيقية والزائفة الخ. ثم تؤدي هذه المرحلة التشييدية التأسيسية دورها، فلا دكتاتورية البروليتاريا باقية ولا الميثاق ولا الكتاب الأحمر ولا دستور الجمهورية الدينية(الاشتراكي)، ويظهر الرأسماليون الحكوميون كأرباب عمل، كأصحاب شركات عملاقة، كرجال أعمال لهم أمبراطوريات المال، لاعنين المرحلة السابقة وأخطاءها الجسيمة. وإذا كان الزعيم لا يزال باقياً في النفوس والمكان والمزار، فلا بد من الاستفادة من جثته للسياحة أو لتوسيع التأييد للنظام الراهن، وعدم نقده بقوة وعلانية، لتظل الانتقادات في الدوائر الحزبية المغلقة خوفاً على مشاعر الشعب من الجرح، ويصبح الكتاب الأحمر مما يشتريه السياح في الميادين ويغدو الميثاق مرمياً في المخازن لكثرة طباعاته السابقة وتحويل ورقه للصحف. التلفيقات الفكرية الشرقية لها اختصاصيوها ومثقفوها وسدنتها، وهم يقبضون كثيراً من هذه التلفيقات على هيئة أراض وسندات وأموال، فهم يعرفون كيف تتبخر الأفكار، وأن الباقي هو الذهب، لهذا يكثر اليمين واليسار الملفقان، من هذه الفئات الوسطى الطامحة أبداً للثراء، وتنضم إليهم شرائحُ العمال العليا، وتتحول كل هذه الفئات إلى الفرقة الوطنية المسبحة بمجد المرحلة. كان من الممكن أن تكون المرحلة الرأسمالية الحكومية مرحلة اقتصاد حر وتعددية حقيقية وحكم برلماني نظيف، لكن ذلك لا يتحقق بدون أسس موضوعية كسيادة الملكية الخاصة لوسال الإنتاج، وهو شرط لم يوجد في دول الشرق إلا في إستثناءات نادرة ولأسباب تاريخية خاصة.
 
صحيفة اخبار الخليج
8 مارس 2009