المنشور

الدولة والثورة في إيران بعد ثلاثين عاماً


 
لا يختلف اثنان على فرادة التجربة الإيرانية وغرابة نظامها السياسي.. عظمة ثورتها بالأمس وسمة دولتها اليوم! لكنهما لن يتفقا على وضوح مستقبلها وآفاقها القادمة في عالم مضطرب، تحاول فيه إيران أن تكون رقما إقليميا ودوليا صعبا، عصيا على الاختراق والترويض، كونها تقدم تجربة حكم’إسلامي’ مغلق، مشدود إلى الماضي في عصر يتّسم بالتنوع والانفتاح والتحولات الديمقراطية والتعددية السياسية!
فالمسافة بين دولة اليوم وثورة الأمس بعيدة بعد السماء عن الأرض.. بمعنى أن الثورة الإيرانية لم توفق في تحقيق الحرية لأبنائها وإن حققت الاستقلال الوطني وحرية القرار للدولة. لم تحقق الرخاء والازدهار المعيشي لسكانها وإن حققت التقدم التقني والقوة العسكرية للحكم. لم تحقق الانسجام الكامل، من خلال تنوع قومياتها وإثنياتها العديدة، وإن حققت الأمن للدولة المركزية. لم تحقق سياسة ‘حسن الجوار’ الكامل، مثل أن تتقدم بخطة تعاون لمنظومة اقتصادية شاملة لمجمل الدول الواقعة في مجالها الجغرافي الحيوي، وإن نجحت في اختراق المنظومة العربية واستقطاب مجموعة ما تعرف بدول ومنظمات الممانعة العربية/الإسلامية!  
لكن، لماذا أخذت مسيرة الثورة الإيرانية العظيمة منحى كهذا؟ ولماذا تأسست دولة أحادية تتخذ من الدين والمذهب الواحد عمادا واحدا أوحدا لنظامها في بلد اشتهر بالتناغم القومي والإثني والتنوع الثقافي والديني والمذهبي عبر تاريخه المديد؟ ألا تضعف هذه التركيبة مستقبل إيران في القادم من الأيام؟ ففي عالم اليوم من ألفيتنا الثالثة هذه لا مستقبل لبلدان وشعوب تختار أن تعيش في قوقعة الذات، المحصورة في مركب يجدف عكس التيار! قد يكون من المفيد أن نعيد إلى الأذهان الأحداث الجسام التي شهدتها إيران في خمسينات القرن الماضي.
فمن المعروف أنه بعد الانقلاب العسكري الدموي، الذي خطّطت له وكالة المخابرات المركزية الأميركية في سنة 1953 ضد نظام الدكتور محمد مصدق الوطني، قد جرى إعدام مجموعة من اليساريين المدنيين والعسكريين، بينما ظلت مجموعات قابعة في سراديب سجون الشاه أكثر من ربع قرن من الزمان(أخرجتهم الثورة لسنوات معدودة وتخلصت من جلّهم بعد ذلك). واستطاعت مجموعات عديدة أخرى أن تنفذ بجلدها والهرب إلى الخارج أو الاستقرار في الداخل والركون إلى الحياة الأسرية الروتينية ظاهريا، من بينها مجموعات من النشطاء خلدت إلى السرية والصمت ولكنها ظلت كالجمر تحت الرماد!. كل هؤلاء، الذين ظلوا نشطين سياسيين في الداخل والخارج، مشاركين- بشكل أو بآخر- في الثورة هذه، أضحوا هم أنفسهم أولى ضحايا عسفها.. حيث وصلت حملات التصفية الجسدية والروحية والنفسية إلى درجة لم تحدث من قبل، سقطت خلالها صفوف لا تنتهي من خيرة الكوادر العلمية والسياسية وحتى الفنية والأدبية، بل تم تصفية أفضل العسكريين الذين كانوا في سجون الشاه لعقود خلت أو حتى العسكريين المرموقين من الجيل اللاحق مثل الأدميرال البحري ‘بهرام أفضلي’، أحد أبطال تحرير ‘خرمشهر- لمحمرة’ من احتلال النظام العراقي البائد!
تطلق القوى اليسارية والليبرالية والدوائر الأكاديمية الجادة على الثورة الإيرانية اسم’ ثورة بهمن’ اقتداء بالشهر الحادي عشر في التقويم الإيراني، حين نجحت الثورة. بينما قوى’الإسلام السياسي’، التي صارت لها الغلبة والاستحواذ والاستفراد بالحكم في النهاية تصفها بـ’الثورة الإسلامية’. ولعله من الأمور التاريخية الملتبسة أن صفة ‘الإسلامية’ أو النظام’الإسلامي’ لم يكن مطروحا في البداية أصلا، حتى لدى رجال الدين الراديكاليين، الذين أبدوا تحفظهم حيال المشاركة المباشرة في الحكم. ورأوا أن دورهم لا يتعدى التكليف الشرعي والتوجيه المعنوي للنظام المأمول القادم. ولكن مآل الثورة ومسيرتها اللاحقة أخذت منحى آخر لم يكن في حسبان الجماهير الثائرة – في حينه – من جهة، ولا في حسابات المحترفين الثوريين من جهة أخرى. حيث أضحت الحريات الشخصية والسياسية، التي كانت قمة الأولويات على أجندة أهداف الثورة، أصبحت في خبر كان!. لذلك فعلى قدر ما كانت الثورة الإيرانية فريدة والمأمول منها كثير من الإنجازات لمواطنيها والكثير من المثال المحتذى به والأنموذج الأفضل لجيرانها، على قدر ما أصبحت النتائج عكس ذلك تماما، إلى درجة أن كثرة من الأكاديميين والسياسيين الإيرانيين والأجانب باتوا يصفون الثورة نفسها بأنها أضحت الثورة المغدورة والمخطوفة!
في البدء عندما كانت الناس خلف المتاريس في خضم الثورة بدا الشعار العام ‘ كلنا معا'(همهْ با همْ)، الذي أطلقه ‘الإمام الخميني’ من منفاه الباريسي، سيد الموقف. واستطاع أن يوحد كل القوى والجماعات السياسية لأسمى هدف ألا وهو إنهاء الملكية الاستبدادية وتشييد نظام جمهوري جديد يكفل الحريات جميعها. لكن ما إن انتصرت الثورة حتى بدأت الخلافات والصراعات تطفو على السطح، حيث استهلت مبكرا بين اليسار الديني المتمركس (مجاهدي خلق) أقوى التنظيمات اليسارية الدينية والشعبية جماهيرية والحزب الحاكم المتمثل في حزب الجمهورية الإسلامية، الذي تأسس بعد الثورة من أجنحة دينية عديدة، مستحوذا في النهاية على السلطة ومستفردا بالحكم، بعد أن جرى التخلص من المنافسين (شركاء الأمس) واحدا إثر آخر. ‘مجاهدي خلق’، ‘فدائيي خلق’ والليبراليين. وأخيرا آخر الضحايا، ‘حزب تودة’ الذي ظل لآخر يوم من نشاطه- شبه العلني- يراهن على ما سماه بـ ‘خط الأمام’ ولم يفقد الأمل في إمكانية عودة الحرارة إلى روح الثورة والعمل المشترك بين قوى الثورة، لمصلحة ‘المستضعفين’ وذلك لو نجحت المساعي المشتركة في استبعاد الأجنحة الدينية اليمينية المتزمتة من دائرة القرار! وقد دفع هذا الحزب العريق (أول حزب سياسي إيراني) ثمنا غاليا نتيجة ذلك الوهم، حيث خسر أفضل مثقفيه الألمعيين، العلماء والفلاسفة النظريين (المعروفين على مستوى العالم)..أمثال الفيلسوف الماركسي الكبير ‘إحسان طبري’ والكاتب النظري المعروف، الضليع بعلم الاقتصاد السياسي ‘جواد جوانشير’. وأحد ألمع قادة الحزب الاستراتيجيين ‘منوشهر بهزادي’، بجانب خريجي سجون الشاه من ربع قرن، العسكريين.. أمثال ‘الحجري’ و’ذو القدر’ وعشرات غيرهم من الكوادر القيادية ذوي العيار الثقيل. ولم يسلم من التصفية حتى كوادر الحركة النسوية مثل ‘كيتا عليشاهي’ وغيرهن العديدات.. إضافة إلى المئات، بل الألوف من أفضل الكوادر السياسية والعسكرية، صانعي ملحمة الثورة قبل ثلاثة عقود خلت!
 
الوقت 7 مارس 2009