المنشور

وكيف لنا أن ننسى..؟!


 «الحياة أعز شيء للإنسان ,إنها توهب له مرة واحدة, فيجب أن يعيشها عيشة لا يشعر معها بندم معذب على السنيين التي عاشها, ولا يلسعه العار على ماض وذل تافه, وليستطيع أن يقول وهو يحتضر: كانت كل حياتي, كل قواي موهوبة لأروع شيء في العالم: النضال في سبيل تحرير الإنسانية» – نيقولاى أوستروفسكى الكاتب الروسي الذي ألف كتاب والفولاذ سقيناه.
فهل يا ترى خطى حسن مدن في كتابه «ترميم الذاكرة» هذه الخطوة باتجاه ترميم ذاكرته فعلا من خلال تلك الآلام والمآسي والأحزان التي عاشها هو وغيره من المناضلين؟ فالواقع يفعل فعله فينا نحن البشر فنبدأ في غرس بذور الحياة رغم الأشواك. هذا الفتى الخارج للتو إلى حياة لا يعرف إلى أين ستقذف به بعد إكمال دراسته الثانوية, فإنه وبقوة وحماس وإخلاص للنضال تلتهب في أفكاره أنبل المعتقدات وأكثرها تقدمية عن الحرية وسعادة الإنسان, سيجد مشواره يطول ويتشعب إلى أن يصل في نهايته إلى ما وصل إليه. حدثنا حسن في كتابه عن اهتماماته الإبداعية وعن حياته الشخصية دون رتوش, وترك لنا الحكم على واقع عاشه هو وبمعية آخرون غيره ساهموا كل بقسطه في النضال من أجلنا جميعا. وفى الفصول التالية من كتابه القيّم الذي نعتقد انه يجب أن يُقرأ من قبل كل من يعنيهم ماضي وتاريخ ومستقبل هذا الوطن, يحكي لنا وبأسلوب شيق ورشيق بعضا من الأحداث التي مرت بها أجيال متعاقبة من خيرة أبناء هذا الوطن وبطريقة تكشف وتنم عن فكره ومحنه. فإلى جانب مشاغله الدراسية والحزبية وعذاباته الشخصية, كانت له اهتماماته الفكرية والأدبية إلى الدرجة التي جعلته يتدرج في مناصب مهنية وصحافية أهلته لأن يكون في مصاف الكتاب والأدباء المبدعين.
لم يشعر حسن قط, شعورا أجل وأعظم من شعوره الآن بعظمة الآمال والآلام التي عاشها من أجل أن يحظى هو والآخرون بعظمة المبادئ التي يحملها والتي مكنته من مواجهة صعوبات الحياة, فرغم كل الصعاب والعقبات بلغ بعضا من أهدافه وغاياته وانتصر على الكثير من محنه وآلامه, مثله مثل من كانوا ومازالوا يحفرون الصخر بكل تواضع وثقة وصبر.
لا أبالغ إن قلت إن كتاب «ترميم الذاكرة», هو أكثر الكتب التي كتبت بأسلوب مشوق عن أحداث السبعينات من القرن الماضي من تاريخ البحرين المأساوي إبان فترة الاحتقانات في ظل قانون أمن الدولة السيئ الصيت الذي لم يُوفر أحداً دون ندوب, فشظاياه طالت آلاف البحرينيين وحكايات حسن مدن هي حكايات هؤلاء جميعاً. إنه -أي الكتاب- يوجز ويعيد إلى الذاكرة كل ما عاناه الكاتب خلال فترة منفاه الطويلة عن البحرين, ونراه يقدم لنا من خلاله ضنك وعذابات سنوات طفولته وشبابه وتشكل شخصيته والخيارات الصعبة التي وجد نفسه في قبالتها في ظل عدم وجود خيارات حقيقية أصلا. يقول حسن «يبدو أن الدموع هي في الأصل لغة, وإلا لما كانوا تحدثوا عن دموع للحزن وأخرى للفرح», فما إن أوشكت على الانتهاء من قراءته حتى أغرورقت عيناي بالدموع وأنا أتخيل كل تلك المحطات وكل تلك الأحداث التي مرت به وكأنما هي سلسلة من الأحداث المتتابعة, وعلى الأخص حكايته مع ابنه (علي).
«كان علي في عمر حرج, لم يكن في عامه الأول أو شهوره الأولى, وإنما كان قد بلغ الأربع سنوات, وكان أمر علاقته معي صعباً في البداية لم يسبق له أن رآني ولم تشكل حكايات أمه عني إليه ما يعوض بعدي عنه, وسنحتاج معاً, أنا وهو لبعض الوقت حتى نستطيع الاقتراب من العلاقة المألوفة بين ابن وأبيه وأب وابنه». هكذا كان حال المناضلين جميعاً, النائب السابق وأحد ضحايا أمن الدولة المحامي محسن مرهون ولدت ابنته «زويا» وترعرعت وهو في المعتقل وآخرون غيره أيضا, لو أردنا تعدادهم وإحصائهم واستحضار عذاباتهم وقصصهم لاحتجنا وقتاً طويلاً ومجلدات للكتابة عنهم.
في روايته الرائعة سيدة المقام, يقول واسيني الأعرج «كم هو قصير هذا الزمن وذاكرته لا ترى أكثر من حاضرها» وأضيف عليه كم هي قصيرة ذاكرة بعض البشر من حولنا أيضا. منذ السبعينات وربما قبل ذلك أيضا, فقد مضى على أحزان مدن أكثر من ثلاثين عاماً وها نحن نتذكرها, كيف لا وقد خلقت فينا تلك الفترة الرعب وأدخلت فينا الرهبة, منذ أن تطأ أقدامنا مطار البحرين الدولي وحتى وأنت في منزلك تشعر بالرعب يجتاحك من كل حدب وصوب.
أقرأ كتاب حسن, أرتعش أمام الأحداث التي مر بها وكأنما هي شريط من الذكريات الحزينة المؤلمة في فترة لم يسلم منها أحد, ففي كل بيت هنالك قصة ولكل طفل حكاية ولكل أم مأساة. «ثلاثون سنة لا شيء في حياة إنسان يحب الحياة» يقول واسيني الأعرج في روايته طوق الياسمين, «ولكن ألا تكفي تلك السنون للخروج من ثقل أحزانها ووطأتها؟ لا أعتقد ذلك, فالندوب والمهانة والإذلال والقتل والتعذيب تحمل دلالاتها فينا وفي قسماتنا المتعبة ولازالت تشكل حاجزاً أمام نسيانها». وفي مكان آخر يقول واسيني, « الحياة إذا لم تكن مشفوعة بأمل فهي قاسية جداً» وهكذا كان حال حسن وغيره من أبناء تلك المرحلة, كان الأمل هو الطريق إلى الخلاص من ذاك الكابوس ومن حقبة لم تنته إلا وحفرت وأكلت من أجسادنا ومن نفوسنا الكثير الكثير.
وأنا اقرأ الكتاب دار في خلدي وتذكرت كل مآسي من أحببناهم, تذكرت هاشم الشهيد الحي في صورته البطولية وبشخصيته الألمعية القوية برغم محاولة سجانيه أن يهزموه فلم يستطيعوا فانتصر عليهم, ولم تمح من الذاكرة صورته الممتلئة بالشجاعة العالية والتفاني بمبادئه النبيلة تذكرت الأغلال والمحاكمات التي ما أن تنتهي واحدة لتبدأ أخرى وكل التهم جاهزة, فهل يكفي أن نقول كفى؟ كيف بجيل عاني ما عاناه أن ينسى؟ يقول حسن في كتابه «النسيان هو ذاكرة أيضاً يلجأ إليه وهو وسيلة من وسائل الهروب من سطوة حضور الذاكرة, لكنها أشد مكراً منا ومنه». كيف لهذه الذاكرة المثقلة بذلك الهم المهول أن تنسى ما ألم بها من أحداث وفصول متوالية من المآسي والأحزان. ففي لجة تلك المآسي هل مطلوب من الذاكرة أن تنسى وكفى؟ أشك في ذلك, فالنسيان نعمة لا يتمتع بها إلا القليل ومن فاقدي الضمير والإحساس. ومع ذلك فأمور عديدة نحتاج أن نتذكرها لتبقى وهجا في عتمة الأفق, وأمور أخرى نحاول جاهدين إن استطعنا نسيانها حتى نستطيع مواصلة مشوار الحياة الصعب. فهل لنا أن ننسى؟
 
الأيام 6 مارس 2009