المنشور

مرحلة الليبرالية المنفلتة القادمة

تتقزم يوماً بعد يوم الملكيات الحكومية الشرقية أساس الشمولية، وتتزايد عمليات الرقابة عليها، ولكن آلاتها الكثيرة تجد حيلاً كثيرة للتخلص من الرصد واستمرار شفط الموارد لصالحها.
كما تتزايد من جهة أخرى توسعات الملكية الخاصة لتحل مرحلة أخرى في خاتمة المطاف حكوماتٌ معبرة عنها، وهذا يشكل مرحلة القطع بين بنية الاقطاع السابقة والرأسمالية. هنا تظهر الرأسمالية بصفتها بنية، وليس علاقات استثنائية أو متنامية في بنية.
هنا يكون الشرقُ قد قلبَ صفحة استمرت عشرات الآلاف من السنين، منذ أن تحولت القرية المصرية إلى حكومة مسيطرة على النهر وجريانه وعلى الإنتاج وتوزيعه، يرأسها فرعون ذو الأوتاد، حتى فرعون ذو الآبار النفطية.
هذا كله ينعكس على مستويات العلاقات السياسية بين الطبقات وأشكال الوعي الأخرى من قوانين وثقافة وعلاقات اجتماعية.
فلم يعد فرعون مقبولاً لا باعتباره حزباً أو قبيلة أو وزارات أبدية، ولكن ذلك لن يعني الانتهاء المطلق لطبقة مسيطرة غنية تمثل الأقلية، فمثل هذا يحتاج إلى أجيال.
لقد رأينا وميض تلك التحولات، فمن دواخل القطاعات العامة ظهرت القوى المالكة الجديدة، وأغلبها لا يريد ديمقراطية على الطراز الغربي، وأصبح الضباط والوزراء والتجار الأقرباء أصحاب قطاعات خاصة كبيرة، ورغم انشدادهم للعلاقات البضاعية والمالية التي لها قوانين مستقلة عن قوانين البيروقراطية الحكومية، لكن حبل المشيمة مازال يربطهم بالبطن الواسع لتلك الأجهزة.
قوى مالية ظهرت رساميلها بشكل غير معلوم، في الخفاء، ومن هنا هي تخشى المحاسبة، وإعلان كيفيات تشكل الثروات، وتؤسس أحزاباً ذات شعارات ليبرالية مفصلة على شموليتها.
هنا تصاغ قوانين انتخابية لكي تستمر الشموليات، قوانين تمتلئ بالاستثنائيات والشروط، ففي البداية كلمات كبيرة عن حريات التظاهر والتجمع والتنظيم والمحاسبة ثم تجيء استدراكات وتحجيم للحريات وتجسيدها على الأرض التي ضاقت.
ويتقارب مع ذلك الرأسمالية الدينية التي كونت رساميلها من (أعمال البر والتقوى)، خاصة في العالم الإسلامي، الذي أنشأ (الرأسماليات الدينية) خلافاً للأمم الشرقية الأخرى، ولهذا فإن هذه الرأسماليات تتشدد في صياغاتها الشكلانية للإسلام، وخاصة فيما يتعلق بقوانين الأسر، لتضبط إيقاع التحول الرأسمالي بسيطراتها ولجر بعض فوائضه في جيوبها.
لكنها ستظل دائماً الحزب المحافظ، الذي يرفض المواصفات العالمية للديمقراطية.
وهو أمرٌ يلقى صدى حميماً لدى الأوساط المالية الحكومية المتنفذة، التي تأخذ ذلك فيما يتعلق بالسلطات المنتخبة، وليس بالحلال والحرام. وهي إذ توظف أموالاً كثيرة في اقتصاد الخدمات بحاجة شديدة إلى المرونة الفقهية، لكن هذا التسييح للأحكام الفقهية يمثل ضربة للرأسمال الديني الذي يمثل ذلك أحد مصادر دخله.
هنا فراق بين الرأسمالين السياسي والديني، وهو فراق سيكون جذرياً مع تنامي العلاقات البضاعية والمالية التي سوف تكتسح كلَ شيء.
لكن اللقاء موجود كلما احتاجت الدول إلى فرملة التطور السياسي المندفع بقوة، وإلى تقييد الجمهور المندفع لعبادة التجربة الغربية، ليس خوفاً على الموسيقى الأهلية الذائبة، ولا التراث المتلاشي، بل حفاظاً على مصدر الفوائض الاقتصادية.
هنا لقاء تاريخي بين الرساميل المتكونة في الخفائين السياسي والديني.
لدى الرأسمال الحكومي كراهية للجرد المالي والسياسي، ولدى الرأسمال الديني كراهية لتفكيك عرى المؤمنين عن قادتهم، واستقلالهم بفهم الدين الذي لم ينشىء الكهنوت.
لكن مثل هذا الزواج الكاثوليكي غير ممكن، كما أن الموارد الطبيعية من غاز وبترول ومعادن ثمينة متجهة إلى النضوب، فإذا استطاعت القطاعات الرأسمالية غير الحكومية أن تحصل على موارد أكبر، وتفجر ينابيع الصناعات الخاصة، وتنشر ثقافة ديمقراطية وليبرالية بين الجمهور، وتعيد النظر في برامج التعليم النظرية الأدبية المسيطرة، فإن تشكل السلطات الحديثة على النمط الغربي يكون مفتوحاً.
تتفكك السيطرات الحكومية على مصادر الثروة، وتتفكك السيطرات الدينية الشمولية على الأديان، ولا يعني هذا ان ذلك سيتم عبر ازدهار عقلاني وديمقراطيات غير مشوبة بشموليات، بل سوف يستمر القديم طويلاً، وبعد زمن من التشدد الكبير يحدث انفتاحٌ فوضوي وحرياتٌ حادة في جوانب معينة.
فدولة دينية متشددة حين يحدث فيها الانقلابُ الديمقراطي يندفع الناس إلى اقصى الحريات الشخصية مع ما يترتب على ذلك من اختلال فكأنهم تخلصوا من كابوس ولم يعقلوا بعد.
ودولة متشددة في الملكية العامة يحدث فيها اندفاع هائل للملكيات الخاصة وتقزيم مروع للملكيات العامة.
بعضُ الدول تعرف بسبب تجربتها التاريخية الطويلة الحلقات الوسط المتنامية، لكون ثمة قوى متعددة أساسها فئات وسطى وعمالية متجذرة في الاقتصاد الحديث، لكن البعض الآخر لا يملك مثل هذه الفئات وتشكلت فئاته الوسطى والعمالية من أرياف متخلفة وبوادٍ متصلبة في عاداتها.
والبعض يتكون من فسيفساء مذهبية ودينية وقومية، والبعض ذو شعب موحد، وهذا كله يترك بصماته العميقة على التطور.
إن الشرق يدخل مرحلة التحول الكبير، والخروج من تشكيلة اقتصادية – اجتماعية، إلى تشكيلة أخرى، تنقلب فيها المعايير والعلاقات، ولابد أن يشوب في أولها خاصة الانفلات والتطرف، ثم تعتدل الأمور وتميل للاستقرار مع قدرتها على تشكيل رأسماليات حديثة إنتاجية وإعادة تشكيل السكان لمثل هذه الاقتصادات المتطورة.

صحيفة اخبار الخليج
3 مارس 2009