المنشور

بين الحلحلة والخلخلة نقاط.. ما هي؟

تركنا شهر فبراير/ شباط الماضي حافلا بالطروحات المختلفة بشأن الخروج من أزمة، ليحملنا تفاؤلنا التاريخي على اعتبارها معضلة من معضلات التطور الديمقراطي وليس التراجع عن الديمقراطية. ما يعزز التفاؤل هو ما رشح عن التقاء جلالة الملك وفدا من ممثلي نادي روما لتسلم توصيات النادي بناء على حوارات سابقة وتأكيد جلالته بأن قيادة العملية الديمقراطية كقيادة الدراجة الهوائية إن توقفت الرجلان عن تزويدها بالطاقة الحركية سقطت الدراجة وراكبها.
في فبراير/ شباط الماضي طرحت مبادرات ثلاث. كل منها يتضمن نقاطا ترسم آليات الخروج من الأزمة. ومهما تعددت المبادرات فإنها تعكس رغبة ومراهنة واقعية من أطراف داخلية وخارجية كثيرة على إمكان الخروج من الأزمة بأقل كلف اجتماعية ممكنة. على إثر مبادرة المنبر التقدمي طرحت جمعية الوفاق مبادرتها داخل مجلس النواب. ورب قائل إن هذا هو المكان الصحيح لإطلاق أية مبادرة. غير أن مجلس النواب بتركيبته الطائفية الحالية لشديد الأسف ليس في وضع يمكنه من حلحلة الأمور بشأن مختلف القضايا، بما في ذلك موضوع المبادرات. لكنه يمكن أن يكون داعما قويا لمبادرة تأتي من وسط خارج المواجهات الطائفية. ثم جاءت مبادرة نادي مدريد التي قدمت لجلالة الملك مباشرة. ووجدت استحسانا من قبل قوى كثيرة في المجتمع البحريني.
شهر مارس/ آذار سيشهد استمرار النقاشات في الصحافة والندوات وغيرها بشأن المبادرات. ولعل طبيعة هذا الشهر التي تعد بالتفتح والإثمار ستأتي أكلا قريبا. لايزال الحديث ينصب أكثر بشأن مبادرة التقدمي رغم مختلف الملاحظات هنا وهناك. وذلك لعدة عوامل. إنها تحمل علامة «صنع في البحرين» بامتياز. فقد جاءت من قبل قوة سياسية لها تاريخها المناهض للطرح الطائفي بكل أشكاله، لكنها ظلت طوال تاريخها معنية بالدفاع عن الوحدة الوطنية في مختلف مراحل نضال شعبنا. كما أن المبادرة، أخذا بعين الاعتبار خصائص الظرف الذي نمر به، طرحت على هيئة دعوة مفتوحة موجهة لكل قوى المجتمع في الحكم والمعارضة وما بينهما. وقد أتبع التقدمي دعوته بطرح آلياته المقترحة لحلحلة الوضع في مؤتمر صحافي ثم في ندوات ومحافل أخرى. وأجرى التقدمي سلسلة واسعة من اللقاءات والمشاورات مع مختلف القوى السياسية وكذلك الاجتماعية كالاتحاد العام لنقابات عمال البحرين وشخصيات فاعلة في المجتمع. وسيشهد الشهر الحالي المزيد من التحرك. ويمكن تلخيص الموقف العام من مبادرة التقدمي لحد الآن هو لا أحد أدار ظهره لها، لكن لا أحد يبدي جهودا حقيقية لتفعيلها غير التقدمي نفسه.
غير أن المجتمع بحاجة لمن يعلق الجرس في كل مقطع زمني يشهد فيه التطور الديمقراطي تعثرا، وبمضمون اجتماعي سياسي في إطار الظرف التاريخي المعطى. كشفت تجربة تاريخ البشرية والتطور السياسي الاجتماعي في القرن العشرين خصوصا عن عقم المقاربات العنيفة والقسرية لتنظيم النشاط المجتمعي. وظل الأمل الوحيد معلقا على القوة الموحدة للأفكار والقيم الروحية والأولويات، وتوحد مجاميع الناس رغم كل اختلاف أولوياتهم الذاتية لكي تصبح قادرة على وقف أزمة الحضارة التي إن تركت تعمل بآلياتها الذاتية فقد تضرب بجذورها عميقا.
بلادنا، كمجتمع مدني لايزال في طور التشكل ويؤدي وظائفه في إطار عمليه التحديث، توجد في حالة درامية من غياب الاتفاق حول المصالح والقيم القاعدية. ويتجلى ذلك في حالتين معا: خلل في تطبيق التشريع وخلل في التشريع الذي لا يمكن أن يدعي الكمال مهما قلنا. لا أحد يعرف المدى الزمني الذي نحتاجه لمعالجة كل من الخللين، لكن من المفترض أن نعرف سبل تقصير هذا المدى. وهنا يأتي دور الاتفاق المجتمعي أو، لنقل، استكماله. إن ضرورة الوصول إلى هذا الاتفاق عن طريق الحوار تمليها طبيعة الهدف النهائي لأي تحديث في المجتمع على أنه تحقيق التطور الوطيد للمجتمع. والحقيقة أن السعي لتحقيق الاتفاق بين مختلف جماعات المجتمع وفيما بين المجتمعات مسألة عنت قرونا من التاريخ. ومنذ زمن طويل عرف العلم الاجتماعي السياسي مصطلح sunesno المتعلق بهذه الظاهرة والذي يعني الاتفاق، الإجماع، التوافق. فهذا أو ذاك من أشكال الاتفاق الاجتماعي ضروري لكل شكل من أشكال التعاملات الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي. هنا تكمن الحاجة إلى إخضاع القضايا المرتبطة بنشأة وتطور وأداء الاتفاق في العلاقات المجتمعية كي تكون مادة للبحث الفلسفي والمتابعة الميدانية. ولا بأس هنا في أن نستعين بأحد أعلام الفلسفة الغربية الوضعية في القرن العشرين، البراغماتي الأميركي المولد ريتشارد رورتي (1931 – 2007): «نحن البراغماتيون نرى أن من قليل المغزى الطرح التقليدي للمسألة على النحو التالي: البحث عن الحقيقة من أجل الحقيقة ذاتها. نحن لا نستطيع أن نعتبر الحقيقة هي هدف المعرفة. مهمة المعرفة هي الوصول إلى اتفاق بين الناس حول ما يجب عليهم عمله، الوصول إلى إجماع Consenus بشأن الأهداف التي يجب السعي لتحقيقها، وتلك الوسائل التي ينبغي استخدامها من أجل الوصول إلى هذه الأهداف. إن الجهود المعرفية التي لا تؤدي إلى تنسيق السلوكيات ليست بجهود معرفية إطلاقا، إنها ببساطة مجرد لعب بالكلمات». هذا الاقتباس – الاستنتاج يمكن أن يفيد بعض القوى السياسية وبعض مراكز النفوذ وكذلك بعض الأقلام الصحفية في أن تزن كل خطوة وحرف على هذا الطريق بكل ما تقتضيه المسؤولية الوطنية.
المرحلة الراهنة من تطور بلادنا تتسم، أو هكذا يفترض، بإحداث تغييرات هامة في البناء الاجتماعي السياسي. وبما أن الرغبة في هذا التغيير قد شملت غالبية قوى المجتمع (4.98) على اختلافها، فإن من المنطقي أن تطرح كمهمة ذات أولوية عليها مسألة إيجاد إرادة سياسية وطنية عامة تبديها مختلف القوى السياسية والمجتمعية الأخرى الرامية إلى إحداث تغيير حقيقي في الطابع الحضاري العام للدولة والمجتمع. هذا التحرك المجتمعي يجب ألا يهدف إلى ضمان حرية التعبير الذاتي لمختلف مكونات المجتمع، بما فيها الطائفية فحسب، بل أن يضمن تجاوز انقسام المجتمع على أساس الانتماء والتمييز الطائفيين قبل كل شيئ. أي ضمان التطور نحو المجتمع المدني الحقيقي ودولة القانون بحق. والتحرك في هذا الاتجاه، في أي بلد، غير ممكن من دون الاتفاق المجتمعي بشأن المعضلات التي تعترض طريق هذا التطور، ومن دون الإجماع الديمقراطي بين القوى الطائفية والاجتماعية والسياسية المختلفة بشـــأن القيــم القاعديــة.

صحيفة الوقت
2 مارس 2009