المنشور

“‬رأس المال‮” ‬لا‮ ‬يوازي‮ ‬بين هامشه الربحي‮ ‬ومسؤوليته الاجتماعية

بلا شك أن كل التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للأزمة المالية العالمية خطيرة‮. ‬إلا أن عملية نزف الوظائف،‮ ‬حيث‮ ‬ينضم‮ ‬يومياً‮ ‬آلاف العاملين إلى جيش العاطلين عن العمل الجرار،‮ ‬في‮ ‬كافة بلدان الرأسماليات الناضجة والأخرى الصاعدة وفي‮ ‬جميع بلدان العالم النامي‮ ‬تقريباً،‮ ‬تبقى،‮ ‬التداعيات الأكثر خطورة ودرامية في‮ ‬الأزمة‮.‬
فقد أدت موجة الإفلاسات وشح السيولة العالمية إلى تبخر الاحتياطيات والموجودات وتآكل قيمتها،‮ ‬فصارت السيولة النقدية أعزّ‮ ‬وأثمن من المعادن النفسية التي‮ ‬تغطيها عادة‮.‬
ونتيجة لذلك فقد آثر كل من لديه سيولة الاحتفاظ بها وعدم التفريط فيها مهما كانت مغريات توظيفها استثمارياً‮ ‬ومهما كانت مصداقية واعتمادية الجهة مصدر الطلب عليها‮. ‬فكانت أزمة السيولة أول مظاهر الأزمة على صعيدها المالي‮.‬
وكان من الطبيعي‮ ‬أن‮ ‬ينعكس هذا الوضع المتمثل في‮ ‬إحجام المصارف عن إقراض بعضها البعض‮ ‬‭(‬Interbank Loans‭)‬،‮ ‬ناهيك عن إقراضها للعملاء،‮ ‬الممتازين والاعتياديين على حد سواء،‮ ‬على كافة قطاعات الاقتصاد الحقيقي‮ ‬‭(‬Real economy‭)‬،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬وجد صداه في‮ ‬انهيار أسعار أسهم الشركات الصناعية في‮ ‬البورصات العالمية وانقطاع خطوط إمداداتها التمويلية‮ (‬نتيجة لإحجام البنوك عن الإقراض‮)‬،‮ ‬ما دفعها لطلب النجدة والإسعافات السريعة من حكومات بلدانها من جهة وشن حملة تسريحات جماعية كبرى لتقليص بند المصروفات المتكررة‮.‬
وامتدت حملة التسريحات من الولايات المتحدة إلى أوروبا واليابان والاقتصاديات الصاعدة في‮ ‬الصين والهند ونمور آسيا،‮ ‬ولم توفر الدول النامية بالمجمل،‮ ‬وشملت كافة قطاعات الإنتاج المادي،‮ ‬من صناعة السيارات وكبريات شركاتها في‮ ‬ديترويت بالولايات المتحدة وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية،‮ ‬إلى صناعات المنتجات الإلكترونية والكهربائية وصناعة العُدد والآلات وصناعة الطائرات التجارية وصناعات الألمنيوم البتروكيماويات والحديد والصلب،‮ ‬والتعدين وغيرها‮. ‬
كما شملت مختلف فروع القطاعات الخدمية المساندة،‮ ‬من صناعة النقل الجوي‮ ‬إلى الصناعة السياحية والفندقية إلى الاستشارات بمختلف أنواعها‮.‬
فوفقاً‮ ‬لتقرير أصدرته منظمة العمل الدولية مؤخراً،‮ ‬سوف‮ ‬يزداد عدد العاطلين عن العمل في‮ ‬العالم في‮ ‬عام‮ ‬2009‮ ‬الجاري‮ ‬بحوالي‮ ‬18‮ ‬مليون شخصاً‮ ‬ليرتفع إجمالي‮ ‬العاطلين إلى‮ ‬30‮ ‬مليوناً،‮ ‬ويمكن أن‮ ‬يرتفع العدد إلى‮ ‬50‮ ‬مليوناً‮ ‬إذا ما ساءت أوضاع الاقتصاد العالمي‮ ‬أكثر‮. ‬كما أن‮ ‬200‮ ‬مليون إنسان من العاملين في‮ ‬الدول النامية سوف‮ ‬يُدفعون إلى خانة الفقر المدقع‮.‬
وبحسب توقعات صندوق النقد الدولي‮ ‬نوفمبر الماضي‮ ‬فإن معدل العاطلين عن العمل في‮ ‬العالم سوف‮ ‬يرتفع إلى‮ ‬1‭,‬6٪‮ ‬هذا العام مقارنة بنسبة‮ ‬7‭,‬5٪‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬‭.‬2007‮ ‬أما إذا ساء الوضع أكثر مما كان متوقعاً‮ ‬في‮ ‬نوفمبر‮ ‬2008‮ ‬فإن هذا المعدل قد‮ ‬يصل إلى‮ ‬5‭,‬6٪‮.‬
ويمكن أن‮ ‬يرتفع عدد العاملين الفقراء الذين لا‮ ‬يستطيعون تحصيل دخل كافي‮ ‬ينتشلهم وعائلاتهم من الفاقة بحدود دولارين في‮ ‬اليوم،‮ ‬إلى‮ ‬4‭,‬1‮ ‬مليار إنسان أو‮ ‬45٪‮ ‬من إجمالي‮ ‬قوة العمل العالمية‮.‬
وبحسب المدير العام لمنظمة العمل الدولية‮ ‘‬جوان سومافيا‮’ ‬فإن عدد الذين‮ ‬يعيشون على أقل من دولارين في‮ ‬اليوم بالعالم سيرتفع بواقع‮ ‬40‮ ‬مليون شخصاً‮ ‬وعدد الذين‮ ‬يعيشون بدولارين فقط في‮ ‬اليوم سيزيد بأكثر من‮ ‬100‮ ‬مليون شخصاً‮.‬
وكان تقرير منظمة العمل الدولية سالف الذكر بيَّن بأن أمريكا الشمالية ومنطقة الشرق الأوسط تتصدران قائمة النسبة الأعلى للبطالة في‮ ‬العالم بمعدل‮ ‬3‭,‬10٪‮ ‬و4‭,‬9٪‮ ‬على التوالي‮.‬
واللافت أن معدل ارتفاع البطالة بعد اندلاع الأزمة احتل قصب السبق في‮ ‬اقتصادات البلدان المتقدمة خاصة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي،‮ ‬حيث‮ ‬يشير تقرير منظمة العمل الدولية سالف الذكر إلى أنه بالمقارنة مع عام‮ ‬2007‮ ‬حيث كان معدل البطالة فيها‮ ‬7‭,‬5٪،‮ ‬فإن هذا المعدل ارتفع في‮ ‬العام الماضي‮ ‬إلى‮ ‬4‭,‬6٪،‮ ‬مضيفاً‮ ‬5‭,‬3‮ ‬مليون عاطل عن العمل إلى مجموع العاطلين في‮ ‬هذه الدول الذي‮ ‬وصل إلى‮ ‬3‭,‬32‮ ‬مليون عاطل عن العمل في‮ ‬عام‮ ‬‭.‬2008
ولكن وبالرغم من كل هذه الأرقام المخيفة التي‮ ‬لا‮ ‬يعادل خطرها سوى خطر السيناريوهات المرعبة التي‮ ‬ترسمها الهيئة الحكومية الخاصة بتغير المناخ‮ ‬‭(‬IPCC‭)‬،‮ ‬فإن العالم،‮ ‬وتحديداً‮ ‬قيادات بلدانه النافذة في‮ ‬القرار الدولي،‮ ‬وصاحبة التقاليد المتراكمة في‮ ‬تجسير العلاقة بين رأس المال والعمل،‮ ‬بل والأسرع تأثراً‮ ‬بالأزمة الاقتصادية على صعيد ارتفاع معدل البطالة كما هو مبين أعلاه،‮ ‬لم تتخذ إجراءات جدية وحازمة للتصدي‮ ‬لحملة التسريحات التي‮ ‬شنتها الشركات والمؤسسات كما فعلت مع البنوك والشركات المعسرة التي‮ ‬كانت سبباً‮ ‬في‮ ‬اندلاع الأزمة،‮ ‬حيث هبت الحكومات لمكافأتها على سوء وفساد إدارتها بتزويدها بإسعافات مالية سريعة سوف‮ ‬يتم تحصيلها من دافعي‮ ‬الضرائب‮.‬
في‮ ‬هذا الخضم،‮ ‬ومع تعاظم المخاطر الاجتماعية على استقرار الأنظمة السياسية الحاكمة في‮ ‬البلدان المتقدمة،‮ ‬يطالعنا خبر مطالبة وزير المالية الألماني‮ ‬بيير ستاينبروك الشركات والمؤسسات الألمانية بالتخلي‮ ‬عن توزيع الأرباح على المساهمين واستثمارها في‮ ‬المقابل لمصلحة الحفاظ على الوظائف وتأمينها،‮ ‬باعتبار،‮ ‬كما قال،‮ ‬إن الشركات تتحمل خلال الأزمة الحالية مسؤولية خاصة تجاه العاملين بها‮.‬
وهي‮ ‬مناشدة طوباوية تنتمي‮ ‬لمدرسة زمرة الحالمين في‮ ‬الجمعية الفابية الإنجليزية وسان سيمون وفورييه في‮ ‬إنجلترا وفرنسا القرن الثامن عشر‮. ‬فالرأسمالية ليست جمعية خيرية،‮ ‬وهي‮ ‬بالكاد،‮ ‬وعلى مضض،‮ ‬تُسلِّم بالحقوق والمزايا الاجتماعية للعاملين بعد أن كانت في‮ ‬أيامها الأولى،‮ ‬زمن المانيفاكتورة‮ (‬الأشكال الأولى للمصانع‮) ‬في‮ ‬القرنين الثامن عشر والتاسع عشر،‮ ‬تسخِّر العمال لاثنتي‮ ‬عشرة ساعة في‮ ‬اليوم‮.‬
فرأسمال لا‮ ‬يضع هامش ربحيته بموازاة مسؤوليته الاجتماعية في‮ ‬الحفاظ على الوظائف،‮ ‬وإلا ما كانت معدلات البطالة ترتفع إبان فترات الجزر في‮ ‬الدورة الاقتصادية.
 
صحيفة الوطن
1 مارس 2009